جريدة الديار
السبت 1 يونيو 2024 03:44 مـ 24 ذو القعدة 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

محمد سعد عبد اللطيف يكتب: أبناء الغروب متى ولدنا!!

محمد سعد عبد اللطيف
محمد سعد عبد اللطيف

يُحزمُ حَقائبَةً ويرحَلُ رُويدًا رُويدًا ونتساءل وقت الغروب من نكون...؟
لقد ظهرنا وقت الغروب في حقول القطن، لا نعرف من أين جئنا وإلى أين ذاهبون، بكلمة أدق جيلاً
مشرد الفكر والهويةحتي مناهجنا الدراسية مشوه، من الغريب أننا كنا نتلقى الجواب نفسه عندما نسأل متى ولدنا... هل وقت الغروب...؟
نحن أيضا لا نعرف من أين جئنا وإلى أين نمضي. نحن أبناء الصمت أثناء الغروب، كل أنواع الغروب...!!
نقلب صفحات الماضي ونتذكر طفولتنا، كل عام بمناسبة انتهاء عام ونعيش الذاكرة،
ورسائل عابرة من مخلوقات بشرية من أزمنة مختلفة وتاريخ منسي.، عاشوا بيننا ورحلوا ولم نعرف شيئاً عنهم. ولا هذا الجيل.، عاشوا معنا وسط بيوت من الطوب الأخضر كانت الحياة بسيطة.، الحقل وتربية المواشي هي ثمة الحياة اليومية، ظهرت طبقة من الغرباء (التراحيل أو الغرباوية) وسط عائلات بسيطة عاشوا تحت رعايتهم كجزء منهم، وآخرون كانوا يتنقلون بين العائلات والعمل معهم، منهم من تزوج وحمل اسم عائلة الزوجة وتكاثروا، ومنهم من رحل دون ترك ذرية ولم نعرف شيئاً
عنهم فقط أنه الغريب...!!
وفي زمن الإقطاع كان كثير منهم يعيشون في مواسم الحصاد كانوا يطلق عليهم الغرباوية،
وكانوا يسكنون الخيام على أطراف القرى، وكانوا يأتون معهم بعض الحيوانات والطيور، للرعي في الحقول بعد الحصاد،
ويحكي أن رجلاً
من الأعيان طردهم وضربهم لأن قطيعهم دخلوا الحقل دون إذنه، لكن شيخ الغرباوية عندما علم بتعدي علي الغرباوية سحبه من فوق فرسه ووضع خنجره على رقبته أمام أهل القرية، وسط الحاشية المصدومة،
ومنذ تلك اللحظة طلب منه أن يكون من حراسه لكنه رفض بلطف لأن زعيم الغرباوية نفسه شيخ بلا مشيخة،
وسيد بلا سيادة وهيبة رجاله وحكيم الغرباوية، وعرض عليه الزواج من عائلته وأعطاه لقب العائلة، كانوا رغم الفقر رجال لا يتسولون مثل انتشار ظاهرة التسول حالياً،، كانوا من مهاجري مناطق الإقطاع المتوحشة في أوائل ومنتصف القرن الماضي هرباً
من جور الإقطاع، التي كانت تعاملهم مثل العبيد، اليوم وبعد ثورة 1952 رحلوا معظم الغرباوية،
وتركوا أفراداً عاشوا وكونوا عائلات وفي زحمة الأحداث، فقدت طفلة عائلتها، وعاشت بين أسرة كبيرة
كأي طفلة مسرورة، لا تتكلم إلا قليلاً وتسكن في غرفة صغيرة،
لا أحد يعرف كيف تعيش ولا عالمها الداخلي،
لا أحد يقترب منها كما لو أنها أغلقت على نفسها حياتها الخاصة وقد يكون السبب فقدان الذاكرة لسبب مجهول،
ومع الوقت صارت تتذكر وقائع قديمة مبهمة، وقد طاف شيخ البلد القرى المجاورة يبحث عن أهل لها فلم يجد...،، بزغت الطفلة في بيت شيخ البلد وأطلقوا عليها اسم《 بهية》 عاشت في وسط الحقول مثل أي كائن بري، أين ولدت...؟ ومن أين جاءت...؟ يخيل إلي اليوم أنها روح نقية ضحية حقبة تاريخية. إنها رسالة عابرة من مخلوقات من أزمنة مختلفة وتاريخ منسي من تاريخ المحروسة. في قريتنا لروح نقية، لم تقترب من أحد من المنزل الكبير، حوار سابق مع عالم من قريتنا قبل رحيلة حكي لي هذة القصة ،، وهو حفيد " شيخ البلد" الذي كان يدرس القانون الاقتراب منها وأثناء اجازته الجامعية ، كان قد حمل لها بعض الهدايا الصغيرة: مرآة لأنها طلبت ذلك ومشط ودمية أطفال،
وفي بعض الأحيان حاول تعليمها القراءة فلم يفلح.
لا تحتاج بهية القراءة ولا الكتابة، لأنها هي نفسها كتاب مغلق،
وحاول مرات البحث عن ثغرة للدخول إلى عالمها وفشل،، بهية ضاحية المجتمع في حقبة تاريخية كتب عن هذه الحقبة ، الأديب
والكاتب المبدع الدكتور يوسف إدريس في قصة (الحرام) عن هذه الطبقة وقد جسدتها السينما المصرية في ستينيات القرن الماضي في عمل فني كبير، ولكن الذي يجمع شخصية عزيزة وبهية طائفة التراحيل من الغرباوية،، شخصية بهية كانت مغلقة طول الوقت ماعدا وقت الغروب تخرج من حجرتها مجهولة من عالم نقي أنها آخر كاهنات بلاد نهر النيل.
في المرة الأخيرة ذهب طالب الحقوق لوداع جدة وكان جدة قد تجاوز التسعون عاماً
الحفيد قرر السفر إلى فرنسا لدراسة القانون في جامعة "السربون" وأخبره جدة بوضوح أنه لن تراني مرة أخرى ياجدي،
وكان يحاول طوال الوقت تحريك جمرات الموقد كعادته عندما يفكر بصمت،
ولم يقل أكثر من:" توكل على الله ". ذهب إلى غرفة بهية وهرعت سعيدة كطائر فرح بجمالها البري النظيف، وخجل من أن يقول لها وداعاً ،يقول -جلست على الحصيرة ولم أعثر على المرآة،
وعندما سألتها قالت:" كسرتها "بهية لا تريد رؤية وجهها، لم يعجبها شكلها لأنها تعتقد أن جمالها في الداخل
أجمل من الخارج وهي جميلة في الحالتين، قال- لم أر
أَبدًا بَشَرًا
يمكن رؤية عالمه الداخلي النظيف مرسومًا
على وجهه كما هي بهية.
بصوت تالف قال:" هل تحتاجين إلى شيء؟ "
بحياء طفلة قالت:" أريد أن أخرج معك للمدينة ".
لم تخرج في حياتها للمدينة ولم تمسك نقُودَا
، ولم تعرف النزهة ولا لعب الأطفال، ولا أعرف كيف تخفي مشاعرها كلغز.
قلت مُحرجًا
:" في يوم آخر ".
ولم تعلق وقال - لكني شعرت وأنا أنهض لأغادر أنني
مثقل بوعد لن أستطيع الوفاء به، وكنت أعرف ان هذا الوعد سيطاردني في كل زمان ومكان، وربما ستعرف هي أول تعرف بعد فوات الأوان. قال-
كان وَدَاعًا ثقيل وأوصلتني للباب، وغادرت دون النظر للخلف. تلك المرة الأولى لا أنظر فيها للخلف مع أنني شعرت بوجودها في الباب وأنا أبتعد.، سافر الي بلاد الجن والملائكة في مدينة العلم والنور "باريس "لم ينس وجه بهية ووداع جدة...، بعدها علم ان جدة مات، وعلم ان جدتة عثرت علي رجل للزواج من بهية
كان هناك في اليوم نفسه حفل زفاف بهية كما علم.
على رجل من القرية،، في نفس اليوم من 5/ يونية عام 1967كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف القواعد الجوية في مصر وكانت قاعدة جوية داخل زمام قريتنا قد قصفت، هنا حفلاً
وهناك مذبحة، كيف يمكن الجمع بين الاثنين...؟ بهية رفضت الجمع بين الاثنين ونحن في عصر المسخ قابلنا الحفل والمذبحة،،، بهية ترفض زواج الاكراه، كانت مصر وسوريا وكل فلسطين نفسها تخضع لحفل إغتصاب،
وعندما حان الوقت لأخذ بهية الى بيت العريس، وجدوها جثة هامدة،،. للأنها رفضت ان تتزوج بالإكراه يوم النكسة...!! بهية تمثل حالة نعيشها، في مرحلة يغلب عليها شىء من شيء من الخوف،،
نعيش أداة تفريغ أو شيء للاستهلاك بلا حياة ولا كرامة.
لذكراها كتبت مقالي من حالة إحباط شديد إن الحياة الحقيقية تسكن في أعماق هؤلاء المنسيين وكذلك التاريخ. الحقيقي ليس في سجلات الدول ومذكرات الزعماء بل في سيرة حياة الرعاة والمعذبون في الأرض والمرضى في مدن الضواحي.
العشوائية
لا يقترب المؤرخون من هؤلاء كمصادر لرواية التاريخ، مع أن الدفان يعرف النظام السياسي من وزن الموتى بتعبير (ماركس.)
يعرف الدفان الحالة الاقتصادية للميت من وزنه ومن نوعية ثياب ووجوه المشيعيين ومن أية طبقة هم بنظرة خاطفة داخل قبر. التاريخ يبدأ من الأسفل في تلك السرديات الباهرة ونظرة عامة الناس للتاريخ مغيبة كما لا وجود لهم لا في الحياة ولا في روايتها ولا الحق في الشهادة.
الولادة في غروب والنهاية في غروب آخر. كائنات تشعل وتنطفيء كالنيازك في الظلام وتنسى الى الأبد.،،