جريدة الديار
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار

عمرو الزيات يكتب« القطع المتوازي » في قصيدة نام الحبيب لمحمد ناجي

عمرو الزيات
عمرو الزيات -

ثمة تقنية درامية تستخدم في السينما تسمى القطع المتوازي ؛ حيث يعمد ( المخرج ) إلى التداخل بين حدثين دراميين متوازيين يحدثان في الوقت نفسه ، وتوحي بعلاقة بينهما ، أو مفارقة من نوع ما ، وربما تستخدم هذه التقنية لإظهار التناقض بين الفعلين ، ويُعتمد في هذه التقنية على جذب انتباه المتلقي ؛ حيث يشاهد – من خلالها – الفعلين في وقت واحد .

نجح الشاعر محمد ناجي في توظيف تلك التقنية في قصيدته ( نام الحبيب ) فأوحي إلينا بالقطع المتوازي في مطلع النص ، وخصوصا الشطر الأول ؛ فقد رسم صديقنا ناجي معالم المشهدين الدراميين المختلفين : الأول حالة من الهدوء والسكينة ( حالة المحبوبة ) التي ملكت قلبه وعقله معا ، وفي ذكاء شديد يشير لما تعيشه المحبوبة من الطمأنينة ، وكيف لا وهي تعلم أن شاعرنا متيم بها ؟ قد استطاعت أسر فؤاده ؛ فلا يستطيع من حبالها فكاكا ، الثاني حالة السهد والأرق وعذاب الحب ( حالة الشاعر ) ، إنها البراعة الفنية والموهبة الطاغية في بناء المشهد الدرامي . شاعرنا يمضي ليله - شأن كل العشاق - في أرق يكابد آلام الحب ؛ وهو مشغول القلب بمحبوبته ( أضناه ) بُعدها ، فيسأل مستنكرا ( كيفَ الرُّقادُ بِشَوقٍ فيَّ مُضطرَمِ؟! ) لكنه اعتاد ذلك من محبوبته ، وكعادة العاشقين يشارك شاعرنا غيره ممن عذبهم الحب وأقض مضاجعهم ، ولمَ لا وهو أكثر الناس إحساسا بهؤلاء المعذَبين ؟ لا لستَ وحدَكَ إنِّي هاهُنا أَرِقٌ والدمعُ ثالثُنا هيَّا لِنقتسِمِ يبلغ الأرق قمته حين تتداخل تلك الأفكار ، وتتصارع بعقله ، فيوجه تلك الرسالة التي تحمل معاني التحدي والزجر ( كف ) لكل من يلومه في حبه ، ثم يأتي التعليل للأمر ( كف عني ) فلا جدال في حقيقة الحقائق ( فالهوىٰ قَدَرٌ ) يا لائمي كُفَّ عنِّي فالهوىٰ قَدَرٌ لو كنتَ ذُقتَ الهوىٰ أَعذَرتَ لَمْ تَلُمِ بعد المشهد السابق ( القطع المتوازي ) نحن - الآن - أمام الشاعر الذي يفدي محبوبته بكل غال ؛ لترضى ، وما أعظم رضاها نعمة ! أَفديكِ يا حُلْوَتي إنْ تَرتضي وَصَبي عَدَدتُ منكِ الرِّضا مِن آثَرِ النِّعَمِ لكنه يعود فيسألها الرحمة به ؛ فهو المحب الذي اختار الحب شرعته ، وهو صادق كل الصدق في حبه إن أقسم أبر ؛ لكن مازال اللائمون يلحّون عليه محاولين إبعاده عن محبوبته ، وهو عنهم معرض غير مكترث : إنْ قِيلَ لي:تُبْ عنِ المحبوبِ قُلْتُ لهُمْ: لا والذي خَلَقَ الإنسانَ من عَدَمِ إن بناء الفعل ( قيل ) للمجهول فيه دلالة على بُغض الشاعر للقائلين ، كما يوحي بكثرة اللائمين واستهجان الشاعر ذكرهم ؛ فليس لهم قلوب مثل قلبه العاشق الذي يتمنى الوصل ، بينما هم يفرقون بين الأحبة ، فما أقبح هؤلاء البشر! حيث يطلبون منه أن يتوب عن حبه ، ويترك محبوبته ؛ لكن هيهات كيف يتوب؟! ( لا والذي خَلَقَ الإنسانَ من عَدَمِ ) من آيات البراعة لدى شاعرنا حسن اختيار البحر الشعري ( البسيط ) ذلك البحر الأثير لدى محمد ناجي شأنه شأن الفحول من الشعراء ، وهو البحر الذي يقوم إيقاعه على التجاوب الناتج من ترديد تفعيلتين ( مستفعلن / فاعلن ) ذلك التجاوب جاء – عمدا - ليرشح ما ذكرناه من تقنية ( القطع المتوازي ) حالة المحبوبة ، وحالة الشاعر ، ثم تأتي قافية ( الميم المكسورة ) لتؤكد حزن الشاعر وأرقه ، ومعلوم أن ( الميم ) من القوافي الموحية بالتعظيم والاستعصام ... أما اختيارها مكسورة تحديدا برهان شاعرية محمد ناجي في إثبات معاني الحزن والأرق التي يعيشها.

وبعد ، فهذا النص يمثل شعر مدرسة الجن وكيفية استخدام شعرائها للغة ؛ حيث اللغة البديعة الفصيحة ، وهي سمة أصيلة في جميع شعراء المدرسة ، وإن كان لكل شاعر معجم شعري خاص يميزه عن رفاقه. أحسن الشاعر بناء قصيدته لغة ، وموسيقى ، وتقنيات فنية ، وخيالا مبتكرا مميزا ؛ فالخيال وليد عاطفة الشاعر ، وكأنه قُدّ لها قدّا ، ومن تلك الصور : أعدَدتُ للسُّهْدِ منِّي مَدمَعًا سَجِمًا قِرَىً لهُ وطَعامُ السُّهدِ من سَقَمي فعاشقنا الأرق يقري السهد من دموعه شرابا ، وسقم بدنه طعاما ، تآلفت المكونات السابقة ، فكوّنت جميعا لوحة فنية فريدة تفرد صاحبها .