جريدة الديار
الجمعة 29 مارس 2024 02:13 مـ 19 رمضان 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

هاجر سيد يوسف تكتب: ذاكرة مؤجلة

(وفق مفهوم بودلير قصيدة النثر الحق هي التي تعتمد تقنيات النثر بديلاً لتنتج شعريتها المغايرة)

هاجر يوسف في واحد من نصوصها الذي يحلق في أفق الشعر الواسع دون أن يبارح آليات الكتابة النثرية وأدواتها !

عندما يتحدث أبي يصبح لسانه فرّازة لغوية، ينتقي كلمات مفزعة، تشبه لوحات فنية لموتى يهيلون القبور فوقهم؛ مرةً كان يسرد شيئًا يضچره وقال" لقد ذبحتني الكلمة، ومازالت تذبح" حينها أدركت أن أبي يعيش في أكوانٍ سبعة داخل مجرتنا، ولا يعيش حتى في منزلنا، وأن الأطباق والأكواب والأجهزة والأثاث وكل الجماد يخاطبهم بلغة العقلاء، يمتون لي أيضاً بصلة دمٍ كوني إبنته، ليلًا يتنّقل أبي في المنزل بخفّة طائر، يُحلّق في الأرجاء، يلتقط بقايا أحلامنا المنبثقة من غرف نومنا الستة، يدهس كوابيسنا وهو في طريقه للمرحاض، هناك، حيث يتغوط مخاوفنا وأوجاعنا، من ثم يتوضأ من روث العالم العالق بثيابه، وهو يحدق في العطب المتفشي في جسده، تحت الماء الذي يشّف كل شيء كصبغة طبية، ويتمتم بشرود ”ما فائدة المرء إن لم يكن كومة من الأعوام يختزلها في قصص قصيرة لأطفاله قبل النوم؟ يجيب أيضاً بأن المرء حتماً سيندثر إن لم يأكل أحلامه، حتى وإن كان الثمن في الأخير مجرد نومة هنيئة لطفله.

أبي يصلي، ينجب أطفالاً، يشرب الشاي، يتجول، يروض أمراض خصومه النفسية بالشِعر، ينصح أمي، يسقي النباتات الصفراء دائماً وأبداً إيماناً أن الربيع يأتي بعد الخريف. أبي يشبه المجاز الهارب من قصيدة، دائماً ما له طلة المجاز، بإستمرار يبحث عن طبق فاكهة، يُلقي بأحداث يومه الطويل في رطوبته، وبعد أن تلين وتحوي نكهة، يمتصها في ذاكرته طويلة الأمد. أبي الذي التهمته الكتب يوماً، وقلبه ينبض كأجراس الكنيسة الرومانية، له وجه بشوارع مألوفة، وعيون أصفى من العسل، دائماً تجوع من النظر إليها، ودائماً لا تشبع، يَضحك الأمل، ويقبع بياض الأعين الحالمة بين تفلجات أسنانه، التي تنفقئ حين يصمت، لأول مرة ترى أبي تشعر أنه أبوك، ينام كاللحن، يتقلب بحذر مع تنهد الأسماك في قيعان المحيطات ولا أخفيك سراً أنه يقرأني كعرافة واصلة دون أن يُفتح لي فاه.

أبي يعيش أربعاً وعشرين ساعة من الحراك مع عقرب الساعة، أبي زاهد كل شيء دون الحكمة واللسان الصدق، يشكو أمي قلة إهتمامها بمعدته الصغيرة شأن أذنه التي لا تسع أحاديثها مع أخوتها الثمانية وأطفالها الستة وجيرانها الستمائة، عندما يحادثني يوقظ بي الألوهية، ويذيب القنوط.

أبي الذي أحب النباتات طيلة الستين عاماً الماضية ويبارك حديثه بأمثلة لنباتات الرب في الأرض وكلما فتّشت عنه تجده متأملا نبتة أو ممسكها أو جالساً جوارها خذلته نبتتان! كان يأويهما غرائزياً في قلبه، ويطعمهما أعوامه، ويسقيهما وقته بدل الضائع في تحوير شمس العالم للأصيص الذي يحملهما، خذلاتاه بإصفرارهما المؤبد. أبي الذي أصبح نبياً على نحوٍ ما، والحكمة عصاه السحرية، جاءت معجزته مغايرة فبعد أن نفخ الحياة فيهما قررت كل نبتة منهما أن تصبح كلباً كالحاً أشعث!

أبي الذي أجول خلفه كعربة إطفاء الحرائق أردد ”أبي أبي أبي“ يستقبلها ”إلهي إلهي إلهي“ ولا ينهرني كأمي ضيقة الخُلق شأني، أبي الذي لو عَلم أنني إختزلته في قصة قصيرة، سيمتدحني في قصيدة لن أستطيع الخروج من قيودها الشعرية حتى أنجب أطفالًا.

أبي ونظراته المليئة بكلمات تغرقني في محيط موت وترسلني خلف سماء، كيف بحقّ الجنة أن يخلق الله رجلاً يحوّر الكون حوله كمُلك سليمان بتعاويذ الكلمات!؟ربما أبالغ، ربما، فدائماً ما أغفو على المجازات. ولكن كيف بحقّ الجحيم أن يكون هناك رجلُ مثل أبي يتنفس الكلمات!؟؟؟

إلي والدي العظيم سيد يوسف

HaGer S. YouSsef