جريدة الديار
الخميس 18 أبريل 2024 03:52 صـ 9 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

محمد خليفة يكتب : قاطع الطريق صحابى النبيَّ محامى الفقراء ! الحلقة الأخيرة

محمد خليفة
محمد خليفة

نواصل معكم الجزء الأخيرمن حكاية قاطع الطريق الذى أصبح صحابياً لخاتم الأنبياء والمرسلين"ص" وعاش حتى زمن الخليفة عثمان رضى الله عنه، حتى صار مفتياً للمسلمين. إنَّه ابو ذر ابن جندب المشهور بابو ذر الغفارى نسبة الى قبياته غفار.

بعد أنْ أمرهٌ النبى بالذهاب الى يثرب لدعوة قبيلته إلى الاسلام، هنا بدأت المهمة التى نجح فيها ابو ذر، ولبّى نصف قومه دعوته ، وأقام معهم يقيم شعائرالإسلام، يؤمهم كبيرالقبيلة "إيماء بن رحضة الغفارىَّ"، إلاَّ أنَّ الصحابى الجليل قابلته مشكلة وهى أنَّ النصف الآخر من قبليته ظلوا على دين الكفر حتى هاجر النبيَّ إلى يثرب، فأسلموا، وتبعتهم قبيلة أسلم، ثم وفدوا على النبى ، وفيهم أبو ذر الغفاري، فدعا لهم النبيَّ فقال: "غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله" وكان قدوم أبي ذر على النبيِّ في المدينة المنورة بعد غزوتي بدر وأحد.

وما أن هاجر أبو ذر حتى لازم رسول الله "ص" وشاركه في غزواته.

حمل أبو ذر راية قبيلته غفار يوم غزوة حنين، ولمَّا انطلق أحد الصحابة ليصيح فى المسلمين ليجمع الرجال للمسير إلى قتال الروم في غزوة تبوك، قام بعض قيادات الجيش الاسلامى بالتفتيش عن المتخلفين عن الغزوة، ويُخبرون النبى باسماء من تخلف عن المشاركة فى الغزوة، فيقولون: يا رسول الله، تخلّف فلان، فيقول النبىَّ: دعوه، إن يكن فيه خير فسيلحقكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه، حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذر، إلاّ أنهم لم يعرفوا سبب تأخرهٌ ، وكان بعير أبي ذر قد تعب من المسير فتأخر عة الركب واللحاق بهم، ، فقررأبو ذر أن يحمل متاعه على ظهره، وخرج ليلحق بجيش المسلمين، ورآه أحد الصحابة قادما من بعيد، فقال: إنَّ هذا لرجل يمشى على الطريق، فقال النبىَّ "ص" كن أبا ذر، فلما تأمله القوم، قالوا: هو والله أبو ذر، فقال خاتم الرسل "ص": رحم الله أبا ذر، يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده..

وأثناء إقامته بالمدينة، كان أبو ذر يقوم على خدمة النبىَّ ، حتى إذا فرغ من خدمته، أوىَّ إلى المسجد لينام.

وذات مرة وجده النبي "ص" وهو نائم في المسجد، فنكته برجله، فاستوى أبو ذر جالسًا، فقال النبيَّ: ألا أراك نائمًا؟، قال أبو ذر: فأين أنام، هل لي من بيت غيره؟ فجلس النبي إليه، ثم قال: كيف أنت إذا أخرجوك منه؟، قال أبو ذر: ألحق بالشام؛ فإنَّ الشام أرض الهجرة، وأرض المحشر، وأرض الأنبياء، فأكون رجلاً من أهلها، فقال النبي: كيف أنت إذا أخرجوك من الشام؟، قال: ابو ذر: أرجع إليه؛ فيكون بيتي ومنزلي، قال النبي: فكيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية؟، قال أبو ذر: آخذ إذاً سيفي فأقاتل حتى أموت، فتبسّم النبى، وقال: أأدلك على خير من ذلك؟، قال: بلى، بأبي وأمي يا رسول الله، فقال النبي: تنقاد لهم حيث قادوك، حتى تلقاني وأنت على ذلك.

ولما اتسعت رقعة دولة الإسلام في آخر حياة النبي "ص" ، سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، فأبى النبي وقال: إنك ضعيف، وإنها خزي وندامة، إلاَّ من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها.

وكان أبو ذر من أشد الناس تواضعًا، فكان يلبس ثوبًا كثوب خادمه، ويأكل مما يطعمه، فقيل له: يا أبا ذر، لو أخذت ثوبك والثوب الذي على عبدك وجعلتهما ثوبًا واحدًا لك، وكسوت عبدك ثوبًا آخر أقل منه جودة وقيمة، ما لامك أحد على ذلك، فأنت سيده، وهو عبد عندك، فقال أبو ذر: إني كنت ساببت "شتمت"بلالاً، وعيَّرته بأمه؛ فقلت له: يا ابن السوداء، فشكاني إلى رسول الله ، فقال لي النبي: يا أبا ذر، أعيَّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية. فوضعت رأسي على الأرض، وقلت لبلال: ضع قدمك على رقبتي حتى يغفر الله لي، فقال لي بلال: إني سامحتك غفر الله لك، وقال النبى: أخوانكم خولكم "عبيدكم"، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم .
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- يحب الله ورسوله حبًّا كبيرًا، فقد روى أنه قال للنبي: يا رسول الله، الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم، فقال له النبي : أنت مع مَنْ أحببت يا أبا ذر، فقال أبو ذر: فإني أحب الله ورسوله، فقال له النبي: أنت مع مَن أحببت ، وكان يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويسأل عنه إذا غاب.
وقد أحب أبو ذر العلم والتعلم والتبحّر في الدين وعلومه، وقال عنه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: وعى أبو ذر علمًا عجز الناس عنه، ثم أوكأ عليه فلم يخرج شيئًا منه. وكان يقول: لباب يتعلمه الرجل من العلم خير له من ألف ركعة تطوعًا.
وكان -رضي الله عنه- زاهدًا في الدنيا غير متعلق بها لا يأخذ منها إلا كما يأخذ المسافر من الزاد، فقال عنه النبي : أبو ذر يمشى فى الأرض بزهد عيسى بن مريم عليه السلام .
وكان أبو ذر يقول: قوتي "طعامي" على عهد رسول الله ، صاع من تمر، فلست بزائد عليه حتى ألقى الله تعالى.

ويقول: الفقر أحب إليَّ من الغنى، والسقم أحب إليَّ من الصحة. وقال له رجل ذات مرة: ألا تتخذ ضيعة "بستانًا" كما اتخذ فلان وفلان، فقال: لا، وما أصنع بأن أكون أميرًا، إنما يكفيني كل يوم شربة ماء أو لبن، وفي الجمعة قفيز "اسم مكيال" من قمح.

وكان يحارب اكتناز المال ويقول: بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة.
وكان يدافع عن الفقراء، ويطلب من الأغنياء أن يعطوهم حقهم من الزكاة؛ لذلك سُمي بمحامي الفقراء، ولما عرض عليه عثمان بن عفان أن يبقى معه ويعطيه ما يريد، قال له: لا حاجة لي في دنياكم.
وعندما ذهب أبو ذر إلى الرَّبذة وجد أميرها غلامًا أسود عيَّنه عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولما أقيمت الصلاة، قال الغلام لأبي ذر: تقدم يا أبا ذر، وتراجع الغلام إلى الخلف، فقال أبو ذر، بل تقدم أنت، فإن رسول الله أمرني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدًا أسود. فتقدم الغلام وصلى أبو ذر خلفه.

وبعد وفاة سيد البشر"ص" شارك أبو ذر في الفتح الإسلامي للشام، وشهد فتح بيت المقدس مع سيدنا عمر بن الخطاب ثانى الخلفاء الراشدين ، وبعد الفتح أقام في الشام يُفتي الناس ويُعلّمهم أمور دينهم، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولكنه كان حاد الطباع فى الحق، وتسببت حِدته تلك فى فساد العلاقة مع معاوية بن أبي سفيان والي الشام حين اختلفوا في آية" Ra bracket.png يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ La bracket.png" فيمن نزلت، حيث قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، بينما قال أبو ذر: نزلت فينا وفيهم، فكتب معاوية يشكوه إلى الخليفة عثمان بن عفان بأنه أفسد عليه الشام، فاستدعاه سيدناعثمان رضى الله عنه؛ فعاد أبو ذر إلى المدينة...

أقام أبو ذر في المدينة يدعو الناس بنفس المنهج الحاد، مما دعا الخليفة عثمان لمعاملته معاملة خاصة يغالبها الحذر، وذات يوم كان فيه أبو ذريقف عند باب عثمان ليؤذن له بالدخول، إذ مر به رجل من قريش، فقال: يا أبا ذر، ما يجلسك هاهنا؟، قال أبو ذر: يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا، فدخل الرجل فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذر على الباب؟ فأذن له بالدخول، فجاء حتى جلس، فإذا عثمان يسأل كعب الأحبار" كعب بن ماتع الحميري اليماني العلامة الحبر" في ميراث يُقسّم: أرأيت المال إذا أدى زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تبعة؟، فقال كعب: لا، فقام أبو ذر فضربه بعصا كانت فى يده، ثم قال: يا ابن اليهودية، تزعم أن ليس عليه حق فى ماله، إذا آتى زكاته، والله يقول: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونAya-9.png.ويقول تعالى "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا" واستمر ابو ذر يذكر آيات من القرآن، فقال عثمان للقرشي الذى توسط له بالدخول الى سيدنا عثمان : إنما نكره أن نأذن لأبى ذر من أجل ما ترى.

لم يستطع أبو ذر أن يتأقلم مع ذلك، واستئذن الخليفةعثمان للخروج للإقامة في الربذة "مدينة تقع في شرق المدينة المنورة فأذن له؛ فخرج إليها فتوفي أبو ذر الغفاري فيها فى شهر ذي الحجة سنة 32 هـجرية..

وكان أبو ذر لما حضرته الوفاة، قد أوصى امرأته وغلامه، فقال: إذا مت فاغسلاني وكفناني، وضعاني على الطريق، فأول ركب يمرون بكم فقولا: هذا أبو ذر0

فلما مات فعلا به ذلك، فإذا ركب من أهل الكوفة فيهم عبد الله بن مسعود، فسأل: ما هذا؟ قيل جنازة أبي ذر، فبكى ابن مسعود، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم " يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده. فصلى عليه، وألحده بنفسه.
"رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه" و لينطق الثرى من فوقهم ببطولة قل مثيلها فى الإيمان و الثبات و الولاء لله و الرسول.

المصادر : 1- سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 2

2- معرفة الصحابة لابن الأثير الجزري

3- الطبقات الكبرى لابن سعد

4- الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني - أبو ذرّ الغفاريّ "1"