جريدة الديار
السبت 27 أبريل 2024 08:22 صـ 18 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

محمد السعيد يكتب : ”معرض الكتاب” بين غياب النخبة واستدعاء الروح

محمد السعيد
محمد السعيد

حين تلوذُ بفرصةٍ تمكنك من الذهاب في زيارةٍ لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، وسط هالة من ضغوطات العمل والحياة اليومية ، لتلحق بركاب رواد تلك التظاهرة الثقافية الكبرى، والحدث العلمى والأدبى الجلل الذى تحتضنه مصر كل عام، لتشعر بلذة الحصول على تلك الفرصة، بالرغم من مشقة السفر إليه بعد انتقال مكانه من مدينة نصر إلى مكانٍ أبعدَ منه، لاعتبارات كثيرة أهمها التخفيف من التكدس الهائل الذى كان يتسببُ فى أحيان كثيرة إلى شلل مرورى كانت تصاب به الشوارع المؤدية إليه ومناطق حيوية عديدة بقلب العاصمة المصرية "القاهرة" ، ليتم البحث من قبل المسئولين عن وسائل أخرى بديلة ليستقر الأمر بمكانه الحالى بالقاهرة الجديدة، والتى أرى من وجهة نظرى أنه قراراً صائباً حيث الانتقال إلى مكانٍ أرحب، وأبعد عن زحام القاهرة المعتاد.

وبالرغم من طول الفترة الزمنية التي يتكبدها رواده من قاطنى وسط المدينة والمقيمين على أطرافها حال انتقالهم إليه، لكنك حال وصولك إلى أرض المعرض، لتتفاجأ بوجود هذه الحشود الغفيرة التى أتت قاصدةً ذلك المكان بعينهِ، فإنك حينها فقط تستحضر شعوراً يدورُ في خلدك يحدثكَ بأن تاريخ الأمم والشعوب ذخر بالعديد من المثقفين والأدباء الذين أثروا الحياة الإنسانية بالكثير من إبداعاتهم الفكرية، والتى باتت نبراساً يتوهج ضياءه كلما مر عليه الزمان أوطال به العمر ، فيزداد بريقه ولمعانه، ذلك لأنهم أصبحوا الدررُ الكامنة فى أعماقِ التاريخ الذى خلد ذكراهم بأن حَفِلَ بمؤلفاتهم وروائعهم البديعة ، فكان حرىٌ بنا أن نقتفى أثرهم كلما حطوا برحالهم.

وأجد أن فى احتضان مصرَّ لهذه المناسبة السنوية، وبخاصةٍ فى عامنا الحالى الذى يواكبُ ذكرى اليوبيل الذهبى لمعرض القاهرة الدولى للكتاب في دورته الخمسين، بمثابة استحضارٍ لأرواحِ العظماءَ من المفكرين والأدباء الذين فارقوا دنيانا، لكنهم لايزالون يحيون بمؤلفاتهم الثمينة في وجدان قرائها الذين أتوا من كل حدبٍ وصوب ، ليجعلوا مصر قبلتهم ووجهتهم ، قاصدين ذلك العرس الدولى الذى رُصعت حُلته وازينت بالكتب النفيسة التى جعلت مرتاديه مابين زائر طموح وباحث مهتم أومدقق بإمعان، جاءوا جميعاً مصوبين أنظارهم إلى منتجات فكرية تمخضت عن إبداعاتٍ لعقولٍ عبقرية، سُردت في كتبٍ قيمة وقد امتلأت بها جنبات المعرض، يُمعنون النظر بين ثنايا هذه الكتب ويدققون فى عناوينها، وكأنهم في رحلة بحثٍ عن معدنٍ نفيس، تلك الحالة التى تجد عليها هؤلاء الزوار تجعلك تشعرُ بقيمة ذلك الحدث الجلل الذى يحدث فى بلادنا كل عام.

و كعادتي أتحين الفرص لحضور أكبر عدد من المحاضرات التى تقام على هامش فعاليات هذا المحفل الضخم لمناقشة أصحاب المؤلفات فى ما أخرجوه لنا من قيمٍ فكرية ومعرفية وأدبية بعدد من قاعات المعرض لأخلص وأتزود بالمعلومات التى قد لا أستخلصها بسهولة حين قراءتى لكتبهم ، ذلك لأن صاحب الكتاب أحياناً يحكى حينها عما كان يدور فى خاطره أو دوافعه التى دفعته لإصدار ذلك الكتاب ومناسبته ، ولعلى لا أستشعر الإمتاع إلا حينما أكونُ على مقربةٍ من المؤلف لأسمع منه سرده لتفاصيل كتابه أو روايته محل النقاش ، و أُرجعُ ذلك السبب إلى الثقافة التى تأصلت فى العديد من شعوب وطننا العربى أو ماأُسميها الثقافة القصصية أو السماعية ، تلك المتمثلة فى ميلنا لسماعِنا القصصَ أكثر من قراءتها، تلك الثقافة التى أفرزتها فينا عواملٌ تراثية غرسها فينا أجدادنا وأمهاتنا، منذ نشأتنا الأولى حين كانت تُقص علينا القصص والحكايات أو مايعرف فى تراثنا المصرى "بحدوتة قبل النوم"، ذلك الأمر الذى أثر فىّ وجعلنى وإلى الآن محباً وبنهمٍ للاستماعِ بدأبٍ إلى ما يحكيه الرواه عن منتجاتهم الإبداعية التى لطالما أجدها خلاقة باقتدار ، فتارة تسمع لدبلوماسىٍ سابق يحكى تجربته وأيام كفاحه خلال عمله بدولة ما، وتحليله الدقيق والمتأنِّ لتلك الفترة من حياته، وتارة أخرى أستمع إلى حديث عالم النحو وهو يبحر في جنبات اللغة العربية وآدابها مستخدماً في شرحه أدق العبارات وأصوبها مستعرضاً فى ذلك مهاراته المتقنة، وآخرون يحكون عن حياةِ شخصيات تاريخية لها شأنها فى حقباتٍ عاصروها وكانت شاهدةً على أحداثٍ غاية فى الدقة والخصوصية، وكان لها أكبر الأثر فى تحولاتٍ سياسية فى منطقة ما من العالم .

ولما أصبحنا فى عالمٍ قل فيه الإبداع الأدبى فكان لزاماً على من بقى من أولى الأمر المثقفين أن يهموا من ثُباتهم العميق وأن ينتبهوا إلى ما فقدته الأمة من أبنائها من نخبٍ مثقفة، أولئك الذين كان لهم أكبر الأثر فى التوعية بالحقوق والواجبات، و استدعاء أرواحهم أصبح واجباً حتمته المسئولية المجتمعية، واستدعاء هذه الأرواح يكون حينئذٍ بتخليد ذكراهم والعمل بتجاربهم السابقة بما يتلاءم مع متطلبات عصرنا الحالى الذى بات يعج ببعض الهرج الناجم عن الفوضى، وأن تسعى البقية الحاضرة من أولئك المثقفين بممارسة أدوارهم تجاه أوطانهم بتقديم نصائحهم التى من شأنها أن تجنبنا الوقوع في غياهب الجهل مما يجعل من أفراد مجتمعاتنا فريسةً سهلة لقوى الشر والتطرف نظراً لتراجع دورهم التنويرى مؤخراً إما عمداً من خلال سيطرة أصحاب رءوس الأموال على منصات الإعلام مما مكن البعض منهم بخلق مايسمى بـ "بزنسة الثقافة" ، وطمس هويتنا، أو من دون قصدٍ من خلال التهميش والتجاهل للمثقفين والمبدعين.

لذا فأجد أنه للحيلولةِ دون تفاقم هذا الأخطار المحدقة بنا ما يجعلها مصدر تهديدٍ لمستقبل أجيالٍ قادمة أن نستدعى أرواح أسلافنا فينا من المثقفين والمفكرين والعمل بمقتضى نتائجهم التى خلصوا إليها ولنتح الفرص أمام مثقفينا باعتلاء منابرهم كل فى تخصصه وأن نفوت الفرصة على أصحاب المصالح الشخصية من تلويث الفكر والتراث، وأن نعلى من قدر المثقفين فى بلادنا لننهض ونرتقى.