جريدة الديار
الجمعة 29 مارس 2024 12:22 صـ 18 رمضان 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

هدى حجاجى أحمد تكتب : ”ضحكات في  اللامعنى“

هدى حجاجى أحمد
هدى حجاجى أحمد

الجزء الثاني

فقدت صديقتي في موجة الحذر التي أعقبتها ...

انقبضت ثم جثمت على صدري كتلة حزن عميق كأنها "دانة " مدفع ...

رأيت الشارع عند نهايته وكأنه يقف على قدم واحدة وخيل إلى أن الناس مسامير مثبتة في ظهره لم الحق ألتقط أنفاسي وإذا بي أصعد إلى الأتوبيس المار أمامي ونفسك تكاد تميز غيظا حين شاهدت شابا مندفعا في سرعة جنونية نحو سيارة الأتوبيس التي دخلت لتوها في موقفها بالمحطة , اندفع الشاب بكل قوته دافعا رجلا عجوزا كان يتجه إلى نفس العربة كان هذا هو الأتوبيس الذي ينتظره ((ياسين)) لذلك تحرك مسرعا تجاه الشاب حاجزا إياه في عنف حتى يمر الرجل المسن ويصعد ,, نظر إليه الشاب ماسحا ياسين من أسفل إلى أعلى وكأنه كان يتقصى داخله في احتقار مستفز تصدى ياسين لنظرات الشاب ينظر أكثر احتقارا , حرك الشاب شفتيه وأخرج كلمات "مضغومة" تجاوز ياسين الكلمات والموقف صعد عنوة قبل الشاب الساخط واحتل واقفا بالكاد مكانا خلف السائق لحق به الشاب المندفع وتكاد عيناه بنظرة نارية مصوبة إلى يس أن تحرقه ,, فرد يس الجريدة وراح يتصفحها غير آبه لنظرات الشاب المستفزة امتلأت سيارة الأتوبيس عن آخرها الجو خانق أوشك الركاب أن يموتوا اختناقا لقلة الهواء والأوكسجين.....صعدت امرأة ممتلئة تتفصد عرقا ,, لاهثة الأنفاس تنحشر بعد نضال مستميت تحتل مكانا وسط العلبة ,, يرمقها يس في إشفاق يراها وقد تصببت عرقا ,,تستجلب الهواء في صعوبة تكاد أن تلفظ أنفاسها الأخيرة ..ينزل يس من مكانه المرتفع خلف السائق يفسح لها حتى تسند بظهرها فوق الحاجز الزجاجي الجو داخل الأتوبيس خانق رائحة العرق الكريهة تتصاعد من كل اتجاه تحاصره ,, تزكم انفه ..مازال الركاب يتوافدون على العربة ينحشرون في مقدرة خرافية ((ينبرمون ويتبططون )) حتى يتراصوا بين الأجساد المتلاصقة ظهرا بظهر وكتفا بكتف الأعناق مشرئبة تستطيع وصول سيارة آخري يضيع الأمل في نزول أحد بعد وصول المحصل ,, المحصل ضيق الخلق جهم الكلمات جهم المنظر ,, يلقي الكلمات في عصبية وكأنه أستاذ غاضب . - أنا مرارتي مفقوعة يا حضرات ) كل من عنده دم يحضر في يده ثمن التذكرة فكة .... من معه اشتراك أو كارنيه أن كان مصلحة أو شرطة يبرزه . يصدر الأمر إلى السائق في صلف بأن يغلق الباب الأمامي السائق ينصاع لأمره على مضض من عنجهية الكمسارى يصرخ في عصبية ناهيا إياه عنها ,, المحصل لا يأبه به يغتاظ السائق ويقف خلف مقود السيارة محتدا ,, يسارع أهل الخير بالتدخل لاحتواء الموقف يعاود السائق الجلوس خلف مقعد السيارة ممسكا في عصبية . ضاغما بعض الكلمات ,, ولاعنا الزمن الأغبر .. يمضغ الكمسارى الكلمات إكراما لخاطر الرجل المسن الذي يطيب خاطره يبدأ المحصل في الخوض بين الأجساد صارخا التذاكر في عصيبة وتكبر يس يسرع بدس يده في جيبه باحثا عن قطعة فضية فئة الجنيه كان قد أخذها من محصل سابق يقلب جيبه .. تصطدم أصابعه بأشياء غريبة يوقن أنه لم يضعها مطلقا في جيب سترته طيلة عمره فهو لم يضع ليمونا مطلقا في جيب سترته يوما , يقلب بأصابعه في الجيب ثانية يعثر على منديل من القماش يستذكر دوما انه يستعمل المناديل الورقية يدهش يقلب أصابعه في الجيب فتصطدم أصابعه بمسبحة ملساء يقرر أن ينظر يصوب عينيه على الجيب يصفق حين يرى يده في جيب سترة الواقف بجواره !! تسرى رعدة في جسده يتفصد عرقا , ضربات قلبه تزداد , رأسه يدور ماذا يصنع .. تتواكب أمام عينيه كل ما يمكن أن يحدث إزاء تلك السقطة ,, يجمع شجاعته ويحاول أن يسحب يده بهدوء حتى لا يشعر صاحب الجيب المقتحم يحاول يستجمع أعصابه وقواه وفكره يركز ثم يحاول ,, صوت المحصل يحاصره طالبا ثمن التذكرة يبتسم عنوة ويحاول محاولاته تأتى بنتيجة مطمئنة فقد استطاع أن يرفع يده في نعومة وفى بطء قليلا إلى أعلى دون أن يشعر بذلك صاحب الجيب المقتحم .. فجأة فرملة قوية للسيارة توشك أن تلقي بالجميع يرفع صاحب السترة ذراعه ممسكا بالحاجز كما فعل الجميع خشية السقوط ما عدا يس الذي ازدادت ضربات قلبه وتفصد عرقا حين سقطت يده ثانية بفعل هذه الصدمة مباغتة فكر ثانية ماذا لو ماذا لو أنهم اكتشفوا هذا الموقف ....؟ أيصبح لصا .؟ ارتعد حين تبدى له الموقف في مخيلته ,, ما يزال يحاول أن يسحب يده في نعومة ثانية ثم تحررت نهائيا من تلك التهمة القذرة . يضم قبضته مكورا إياها ويرفعها عاليا وقد واجه المحصل . نهره المحصل طالبا منه في غضب ثمن التذكرة يسرع ياسين واضعا يده في جيبه متوخيا الحرص هذه المرة .. لم يخطئ الجيب أخرج قطعة العملة الفضية ودفع بها إلى المحصل الذي أعطاه التذكرة متفحصا إياه في تساؤل , فأنطلق يس في الضحك . تعجب المحصل وظنه مجنونا , استثمر ياسين كلمة المحصل (ربنا هو الشافي ) فأنطلق يس ضاحكا في عصبية ,, كل النظرات تتجه إليه تحتويه يستشعر الإشفاق والريبة في عيونهم , يتراجع صاحب الجيب المقتحم . صرخت امرأة عجوز تجلس على المقعد المجاور لياسين في وفقته نهضت مذعورة وراحت تسبح بذراعيها بين الأجساد المتراصة سعيا للهرب مولولة ( مجنون .. يادي الداهية ) !! نظر يس لها في غرابة ,, أسرع باحتلال مقعدها جلس وهو ما يزال ينظر إليها وقد مط شفتيه في غرابة . نظر حوله ببطء وتفحص لكل الجالسين والواقفين ,, انكمش الشاب الذي جلس يس بجواره وانصرف في خوف بنظراته عبر النافذة .. سيارة الأتوبيس منطلقة فوق كوبرى أكتوبر العلوي . رفع يس كتفيه في غير لا مبالاة وراح ينظر مع الشاب من نافذة السيارة ,, فلم لم يجد ما يستحق الاهتمام , أعاد النظر إلى داخل الأتوبيس . راح يرمق الكل بنظرات الريبة والشك يفرد قدميه يخلع حذائه تتخلل نسمة ساخنة من الهواء أصابع قدميه يستشعر الراحة . ينهض الشاب الجالس بجوار النافذة وقد سد أنفه بأصبعيه حتى لا يشم رائحة العرق العفن..! نهض في عصبية أفسح يس للشاب حتى يعبر وهو لا يدرى لماذا ينظر الكل إليه في تعجب ,, ولما كل هذا الرعب في العيون !! رفع يده إلى رأسه فتراجع كل من يجلس خلفه أو يقف حوله وتعالت صرخات النسوة , فرفع كلتا يديه فوق رأسه ثم عدل سرواله وفك الحزام وأعاد القميص إلى موضعه السابق وأحكم الحزام مرة أخرى ..أخرج منديلا ورقيا واستعمله ثم كوره وألقي به من نافذة السيارة ,, جال ببصره حرصا منه ألا يكون قد تسبب في إيذاء مشاعر أحد بجواره أو أمامه أو خلفه ,, فوجد أن الكل قد ابتعد عنه وبشكل مبالغ فيه حتى أنه قد صار وحيدا على الكرسي . والكرسي الذي خلفه قد أخلى من جالسيه والذي أمامه أيضا ..والأجساد تكونت عند بابي السيارة انتظارا للهروب ,, لم يكن يدرى أنه هو السبب المباشر وراء كل هذا الرعب الذي حدث . وتيقن أن الجميع يظن به الجنون ,,يضحك من سذاجة الجميع ويتنقل بين المقاعد ويجلس بجانب نافذة مفتوحة , يطل منها يستنشق الهواء من فتحتي أنفه في صوت مسموع ,, الهواء القادم في انطلاقة بلا حدود ينعشه. الأتوبيس يسير ما يزال الكوبرى العلوي أمامه ممتدا . يظهر النيل بلمعان مياهه تنعكس أشعته في عينيه ينظر ويزداد ضحكه عندما يلقى نظرة إلى أولئك المتكومين في رعب عند الأبواب يضحك أكثر عندما يلمح ومن كل الأتوبيس خوفا من أن يتطور جنونه فيصيبهم بالأذى يضحك أكثر حين يلمح دمعة في عين سيدة جميلة .. يس لا يتوقف عن الضحك ينكمش الكل خوفا ورعبا يتوقف عن الضحك ثانية . ينصرف للنظر إلى النيل , ترقب عيناه مياه النيل مرة أخرى يظهر هذه المرة أمام عينيه مركب صغير يقف فوقها صياد صغير وهزيل . يلقى بالشباك في وهن وترقب يتابع المنظر يتذكر , يتنهد .. هنا كان يمشى معها ذات يوم في هذا المكان وكثيرا ما استقل معها مركبا وصار يجدف . تغضب ويجدف يحكى ويجدف , يحلم ويجدف , تضحك ويجدف , تغضب ويجدف لم تعد تسير معه الآن , يتذكر تلك الأغنية الرقيقة التي كانت في لحظات سعادتها تغنيها همسا وتبادله النظرات ( مهر المحبة قلة وحصيرة ) يتذكر كيف أجهضت أحلامه وسرقت الوظيفة شبابه وعمره ,, ولم يكن ميراثه من تلك المعاناة سوى الندم والحسرة .. يتذكر كل هذا الحب الرائع الذي كان يضم قلبيهما ذات يوم , يتغنى بالأغنية ,, يشعل لفافة تبغ .. يتأمل دوامات الدخان الدائرية مع حركة الهواء .. يتجسد وجه محبوبته وسط الدوامة.. "عبير "كيف هي ألان ؟ أين راحت , كيف مضت من حياته هكذا في بساطة وكيف اخفق من يومها .. يوم أن قالت : إن لم تقدم لي الشبكة اليوم ... فغدا يكون عقد قراني على عريس في سعة العيش . أخرج صوتا منفرا حين تذكر كلماتها تلك اخرج أخرج صوتا أعلى من ذي قبل وتجسدت كلمة (طظ) بعد أن امتلأ بها فمه فألقى بها لافظا إياها بكل قوة ,, نهض فى عصبية , ألقى بلفافة تبغه من النافذة لاعنا الزمن والأيام وضيق ذات اليد , لعن الزمالة والصداقة والقرابة فلم يتحقق من ورائهم حلمه الناس يرمقونه في رعب شديد , الكل يبتعد عنه مشيحا متلاشيا , سقط بين حصار عيونهم عاد إلى نفسه أستشعر خطورة اللحظة على نفسه تحرك في عصبية , لم صعوبة في السير بين الأجساد المتراصة , , توقف الأتوبيس في المحطة نزل .. مايزال يلعن الصداقة والأيام والكل يفسح له الطريق في رعب يتجاوز سلم الأتوبيس ويقف على الأرض وسط الطين اللزج , يبصق ... تحد منه التفاتة فيرى كل من في الأتوبيس قد تزاحم في النوافذ وراح يرمقه ويضحك ..الكل يضحك , تصاعدت الضحكات وملأت العربة بعد أن رأوا ياسين وقد غاصت قدماه في الطين . كل الوجوه تضحك كل الأصابع تشير إليه أصحاب كل تلك الأصابع المصوبة إليه يضحكون .. ينظر إليهم هو الآخر حين خيل إليه أنهم حيوانات خلف الحواجز الزجاجية , حيوانات تضحك , يشير تجاههم ويضحك يضرب الأرض بقدميه من شدة الضحك ,, يتطاير الوحل على زجاج النوافذ , على وجوههم يضحكون ويضحك يسير , والكمسارى يطل عليه ويضحك .. السائق يضحك .. المارة يضحكون .. تبتلعه الظلمة وهو يضحك.'.'