جريدة الديار
الجمعة 29 مارس 2024 12:59 مـ 19 رمضان 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

محمد الصباغ يكتب : قصة قصيرة بعنوان الأيام الأسعد

محمد الصباغ
محمد الصباغ

كنت أحد ضحاياه المباشرين ، حين كان يضرب بقسوة وفي كل إتجاه وفي الصديق وفي العدو ؛ حين حدوث أول بادرة للإختلاف ؛ ولكنه لم يشعر بذلك وبقسوة ضرباته نحوي شخصيا وبلا داعي أو علي تصورات تخلقت داخله ؛ دون هجمات مني تجاهه وكان يعود بعد تسديد ضربته وكأنه لم يفعل شيئا ؛ فكان هذا يجبر الآخر علي التجاوز عن الضربة ؛ مقابل استمرار المودة المؤقتة التي كان يخترقها مرة وراء المرة ، وقد خجلت أن أذكره بحماقات كثيرة إرتكبها ضدي مازالت آثارها باقية تنغص في حياتي منذ لحظة إقترافه لها وتسديده الضربات تلك التي طاش بعضها ولكن أغلبها بقي مؤلما ؛ ولكني لم أذكره بالمؤلم لما فعل معي ومعي غيري مما سهدت بنفسي ؛ ولهذا لم أشأ أن أفسد عليه لحظات إحتضاره وموته الوشيك بأي نبش في الماضي المؤلم له .

كنت شاهدا علي رحيله وهو محب لكل الأصدقاء ؛ بعد أن حضرت ساعات موته الأخيرة ؛ وكنت أخشي عليه أن يزيد ألمه ؛ الذي وددت من قلبي أن لا يشعر به وأن لا يموت حالا وأن يمتد به العمر لنعيش معا لحظات أخري من الحياة ولو كان سيحدث بها لي ألم جديد ؛ ويكفيه أنه يعتقد صادقا أنه لم يؤلمني ؛ كما يعتقد أنه لم يؤلم أي ممن شاركوه الحياة ؛ وأنه إذا كان موته ؛ فليكن موت بلا ألم ؛ وبلا تخريف تحت وطأة المرور بالألم . كان صادقا في نسيان ما سببه من ألم لنفسه وما سببه من ألم لآخرين ، لم يكن يري ألمهم بسبب جريانه المتواصل في الحياة ودون أن يلقي نظرة علي الخلف ولا لما أحدثه وقع جريانه في حياة مخالطيه وفي حياة الآخرين .

كانت قد أخرستني كلماته الأخيرة التي نطق بها وهو في غاية الإجهاد ؛ قبل أن يغمض عينيه علي وداعي ؛ وقد قال لي وقد ماتت عيناه وقد ظل عقله حاضرا ولسانه يتكلم : " أشكرك أنك حضرت كل لحظات رحيلي ؛ لست أدري لماذا لم يحضر الآخرون ؟! .

كل من كنت أود أن أراهم وأنا أغادر هذه الدنيا التي مت من أجل أن أعيشها ؛ ولم أحقق لنفسي فيها شيئا بقدر ما حققت لمن رغبت في أن أحقق لهم كل ما تمنوا علي ". - هم لم يريدوا أن يروا ألمك الآن ؛ ومعاناتك وأنت تصد المرض ؛ ليس عن حياتك فقط ؛ بل عن حياتهم . - ليت هذا يكون صحيحا ؟! .

أخشي أن أغادر الدنيا ؛ دون أن أصل برسالتي إلي من وددت أن أعبر لهم عن أن حبي لهم أكبر من حبي لحياتي نفسها ؛ وأن حياتي لم يكن لها من طعم لحظات السعادة بها ؛ إلا بهم : أود أن أقول لمن وجدوا في حياتي بعض السلوي وبعض العزاء علي تجربة الحياة ؛ أني قد مت بسبب حبي لهم ؛ وحقا في الأيام الأخيرة لي في الدنيا هذي فإني أطرح علي نفسي أسئلة كثيرة : كم شخص يحتاجون وجودك ؟! .. أو يرتبط وجودهم بوجودك ؟؟ أو يشعرون بوجودك ؛ أو يزول وجودهم ويتأثر بإختفاء وجودك ؛ وحقا لو كنت تنبهت لمغزي هذه الأسئلة ؛ وطرحتها علي نفسي أو حتي في أطروحاتي لاختلفت حياتي كلية ولبان أثرها في حياتي ؛ إذا كان لا شخص يتأثر بوجودك ؛ فلابد أن تختفي من الوجود : الوجود هو الآخرون ؛ ولو كان الآخرون هم الجحيم !! الوجود عطاء متبادل ؛ أو فناء موجد لوجود تال ؛ الوجود وطن حاضر " .

- ما سمعته منك الآن هو أصدق ما سمعته منك طوال حياتك ؛ لقد قدمت لي أكبر معروف وأكبر درس في حياتي التي ربما أكون وعيت ماضيها الآن وأنت تحدثني ؛ لقد أوصلتني إلي شعور عظيم جدا ؛ لأنه كان مغلقا علي فهمي وعلي إحساسي : لقد أهديتني خلاصة الصراحة والصدق والتأمل ؛ الذي يجعلنا ندرك ونفهم معني قيمة الأشياء والأشخاص في الحياة ؛ وأن نسعي لأن نوصل لمن نحبهم أننا نحبهم وأن الإعتراف للآخرين بالحب ؛ وضعفنا أمامهم أو ضعفنا معهم ؛ يجب علينا ألا نكتمه أو نخجل منه .

- " كيف مضت الأيام الأسعد من بين أيدينا ولم نشعر بطعم حلاوتها إلا بعد أن مضت ؛ وكيف لا يبقي بداخلنا غير طعم مرارة الأيام ؟! .. وكيف نكون في شقاء منذ لحظة الميلاد وحتي لحظة الوداع ؛ إلا بإستثناءات منسية !! .

ما أقبح اﻷشياء الجميلة ؛ إذا ما كان المال هو الوسيلة الوحيدة لكي ما تكون حقيقة !! وما أقبح السعادة التي تجلب الشقاء للآخرين" .

- وكأنك لم تشقي إنسيا ؟! - كنت الإنسي الوحيد الذي أشقيته في الحياة ولم أحقق له ؛ ما حلم به من سعادة ؛ ليس من سبب إلا أني كنت حريص علي ألا أشقي أحدا ؛ حتي ولو كانت حياته كلها ؛ قد رصدها لإشقائي .

كانت جملته الأخيرة قبل موته مباشرة ؛ قد إستفزتني لأن أصارحه ببعض مما فعل ؛ وأن أصارحه بعد الموت ؛ فلربما سمع في الموت ؛ مالم يستطع أو يعطي لنفسه الفرصة لسماعه في الحياة ؛ ولكن عندما شرعت في الإسترسال ؛ فقد دخل علينا من منعني حضوره ؛ فقد أشيع خبر موته ؛ وقد بدأ توافد منمن لم يرغب في رؤيته حيا ؛ وقد أتوا ليروه فقط ميتا .

وكان موته قد هزني أنا فقد خالجتني مشاعر مضطربة ؛ بعد أن أغمضت له عيناه في الموت ؛ وهددني شعور خفي أني في لحظات إحتضاره ودخوله في غيبوبة الموت وعودته منها ؛ أني كنت أقتص منه ؛ ومما صنع بي بسهودي احتضاره وطفوه في الموت ثم غرقه فيه ؛ وكأني واصلت الشماتة به وأنا أراه بحتضر بدون أمل كاف له في درء الموت مؤقتا ؛ وكنت انا من أسامته للموت قصاصا لكل ما صنع في حياته دون داعي تجاهنا ؛ وأن هذا كان قصاصا عادلا .

كانت هذه المشاعر تهددني أمام الجثمان المسجي ينتظر إنهاء إجراءات دفنه ؛ رغم أني في لحظات مصارعته الموت ؛ كنت قد وددت أن يستجيب لي حين أغمضت له جغون عينيه كي يسكن الموت ؛ وكنت في نفس اللحظة أهمس له بالوداع وإني كنت أقول له : " لا تذهب " ؛ ولتبقي رغم الموت قريبا ؛ ولت تجعلهم في الموت ؛ يسكنوك في مدينة بعيدة ؛ حتي لا تكون بعيدا عنا ؛ أو أنك تعمل علي أن تظل في الموت حيا .