جريدة الديار
السبت 20 أبريل 2024 04:39 صـ 11 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

يوسف وهيب يكتب: صامتون وأصابعهم تتحدث!

يوسف وهيب
يوسف وهيب

دع الآخر يعيش حالته، ولا تنسْ؛ أن كل إنسان به قدر من العلم، غير ذاك الموجود في جعبة غيره من الناس، ولا تشترط العلم بمفهومة الدقيق، نظريًّا كان كالفلسفة والمنطق والآداب، أو تجريبيًا معمليًّا كان كالفيزياء والكيمياء، أم علمًا دينيًا، لكن لتسمح لنفسك أن تفتح قوسًا، ولا تغلقه من فضلك؛ كي يتسع لمزيدٍ من صنوف العلم، حتى لو كان هو مجرد الإخبار بشيء أجهله أنا وأنت، وأنا إن كنت وسأكون دومًا معك في ذلك، إلا أنني في الوقت ذاته، لا أعرف ما الذي يجتنيه بعض البشر حين يتعالمون، ويدّعون بماليس فيهم أو لديهم من علم أو معرفة؟! هل لأنهم لم يجربوا فضيلة الصمت والتأمل ولو قليلاً؟!، أم أن هذه آفةٌ لدى البعض، قد تكون بذرتها الخوف من الاتهام بجهلٍ أوغفلةٍ؟! ويبدو أن الأسئلة الكثيرة هذه لن يُجاب عنها إلّا بأسئلة أخرى لانهاية لها، وجرّب- ولعلك جرّبت كثيرًا- أن تسأل أحدهم عن مكان ما أو شيء ما، ستجد أن كثيرين يتبرعون بالإجابات، ولا تعرف إن كان هذا التبرع السريع/ المتسرع، هو من باب الشهامة أم هو مجرد شهوة لإثبات الوجود؟! أيها العابر؛ إياك وهذا الصامت الذي أمامك، طالما ردّ تحيتك بإيماءة يحملها وجهه المبتسم، دعه لحاله، أرجوك لا تسأله عن سبب صمته، أوتقطع عليه سباحته الروحية بحجة مواساته أو الاطمئنان عليه، إنه في أحلى أزمنة يُريِّض فيها روحه، بعد أن فشل في ترويض صخبكم وضجيجكم الذي بلا طحين.. زكي نجيب محمود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا تغضب مني- بل اغضب معي- حين أقول أننا نقول كثيرًا، ونادرًا ما نعمل، والعجيب أننا نقول أو نسمي ما نثرثر به رأيًا وحرية وما إلى ذلك، التجربة العملية تثبت دومًا لمن له عينان وأذنان، أن الحرية الحقيقية هي في العمل، فأنت وأنا لن نكون أحرارًا لو لم ندعم وجودنا وكلامنا بعمل ما، يحضرني هنا مثالان، الأول في تنظيم الكلام، وهو بمثابة أحد دروس أستاذ ومعلم الأجيال الدكتور زكي نجيب محمود، الذي كنا ننتظر وغيرنا من قراء الصحف، مقالته الأسبوعية بجريدة الأهرام ليفتح لنا أُفقَ مساءلة تراثنا وأفكارنا، والدكتور زكي هو من أسس في أذهان الكثيرين من متابعيه ضرورة الاقتصاد في اللغة والتركيز والتكثيف، فهو الابنُ الوفيُّ لمدرسة الوضعية المنطقية، التي بُنيت على متونها الفكرية المدرسة البراجماتية أو العملية، علمنا زكي نجيب محمود أن الجملة الفكرية ليست مجرد إثقال فلسفي، أو حليات لغوية مزججة بالسجع الممل والمحسنات البديعية، كما أورثنا الخطباء والمتحذلقون، فما المعني الذي تضيفه جملة من عينة " النار المشتعلة "الجليد المتجمد" أو "الجليد الأبيض" علمنا الأستاذ زكي، كما أن الجملة في اللغة تتكون من مبتدأ وخبر، غير أنها في الفلسفة ليست مجرد جملة، بل قضية تتكون من موضوع ومحمول، وفيما ذكرت من أمثلة إن كان الموضوع في القضية الفلسفية هو "الجليد" فما الذي ستضيفه لي من أفكار كلمة المتجمد أوالأبيض حين تليها؟! الإجابة بالسلب، أي أنها لم تضف جديدًا، إذ أن التجمد هو متضمن في الكلمة ذاتها "الجليد"، فليس هناك جليد سائل على سبيل المثال، كذلك اللون الأبيض فهو بالخبرة متضمن في كلمة الجليد فلا توجد هناك ألوان أخرى من الجليد كي أميز هذا بالأبيض وذاك باللون الأحمر مثلاً! لقد علمنا المعلم زكي نجيب محمود أن المعني ووجود الشيء ملموسًا لا يأتي من خارج الكلمة فهو يكمن في بنيتها، بل ذهب بنا إلى ما هو أهم من ذلك، إن الجملة التي لا تؤدي إلى عمل ملموس هي جملة باطلة. ذلك الرجل العقل الذي أهملته أمته، رغم أن أقرانه في بلاد أخرى لا تتوقف الاحتفاليات بآثارهم الفكرية التي جددت في فكر أمتها، ولا تخلو قاعات الدرس في أقدم الجامعات وأرقاها من مناقشة لرسالة ماجستير هنا لمناقشة أفكار هذا المفكر، أو رسالة دكتوراه حول أفكار ذاك الفيلسوف. إيفا كيرلس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المثال الثاني الذي يحضرني هو مثال "إيفا هابيل كيرلس" أول عمدة امرأة وفي صعيد مصر، جاء انتخابها وسط مصارعة من رجال في مجتمع كان إلى وقت قريب يظنه البعض أنه مجتمع الذكور فقط، رغم أن هذا ما يبدو على السطح، ولكن ما أن تتعمق قليلاً في الحياة الصعيدية ستجد أن الأم الكبيرة هي الحاكمة وهي صاحبة الكلمة والمشورة والرأي وما الرجل إلا الواجهة التي تنفذ ذلك، وهي وزيرة الاقتصاد والداخلية وهي الحاكم العادل وسط العائلة، حتى وإن تركت المنظرة لابنها أو زوجها الذكر! إنها الملكة التي تمثلت كل قواعد العدالة المصرية "الماعت" التي زرعت في العالم فجر الضمير، بما حوته من أكثر من أربعين وصية أو مبدأ أخلاقيًا يجتاز بها الإنسان حياته القصيرة هذه إلى حقول الأيارو "السلام" أو الحياة الباقية الأبدية. التقيت إيفا هابيل في العام 2008 داخل دوار العمدة بقرية كوم بوها مركز ديروط محافظة أسيوط أي قلب الصعيد، كان لم يمض على انتخابها عمدة لقرية كوم بوها أكثر من أسبوع، وبعد أن عرفتنا بنفسها ذلك التعريف التقليدي أنها حاصلة على ليسانس الحقوق، وهي عضو مجلس محلي بأسيوط، فاجأتني الست الصعيدية بما لم يخطر ببالي، أنها سافرت إلى العراق في الثمانينيات، ظننت بادئ الأمر أن السفر سياحة، خاصة أنها ابنة عمدة وجدها عمدة أيضًا، أو مهمة عمل ضمن بروتوكولات المحليات والهيئات الحكومية، لكنها أذهلتني حين أوضحت قائلة في الثمانيات كنت لا ازال أدرس بكلية الحقوق، وتعلمت أن من لا يستقل اقتصاديًا لا يمكن أن يحقق استقلاله الفكري والسياسي والشخصي أيضًا، لذا قررت السفر والعمل خلال فترة الأجازة وعملت هناك بمكتبة ومكاتب حجز طيران وخلافه، ومن وقتها أصبح لدي رصيدي الاقتصادي الذي مكنني من التحرر السياسي والفكري مع كل الاحترام بالطبع للأسرة، فالاستقلالية لا تعني نفي الأسرة أو التعالي على العائلة، بل التمكن أكثر من خدمتها، وخدمة بلدي وبحيث تتحرر حركتي هنا وهناك لقضاء مصالح الناس من الاحتياج أو انتظار وارتهان حركتي بمن يعطيني، وهكذا استطعت من تمكين شخصيتي وأفكاري بذاتي وجهدي ودماغي دون وصاية أحد، سواءً كان هذا الـ "أحد" فرد أو سلطة ما. اعمل وبعدها تكلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أمام عنبر السرية الثانية بمركز تدريب المشاة، في عز شمس بؤونة الحارقة، كان الطابور الأول لمجندين حديثي الالتحاق بشرف الخدمة الوطنية، أوقفنا الضابط نصر عباس، وبعد تعليمات وشرح موسع للتجرد حتى من الجسد والروح فداءً لهذه الأرض وحماية لأهالينا امهاتنا وأخواتنا وإخوتنا، كبيرهم وصغيرهم في بيوتهم، وكذا تعليم ضرورة أن تكون أنت كفرد هو المحور الرئيسي في المعركة، وأنت كترس مكمّل للماكينة المجموع هي ذات الضرورة والأهمية، حاول بعضنا وبطبيعة الشباب الذي لم يواجه الشمس الحارقة هكذا، أن يستأذن الضابط قائد الطابور، قائلاً وهو يشير بإصبعه إلى مظلة على بعد 100 متر: يافندم لو سمحت ياريت نقف تحت المظلة شوية" - انتباه يا جندي! هكذا صاح الضابط عباس، وتابع كلامه قائلاً: أخي الجندي مطلبك قد يكون حيويًّا بالنسبة لك، لكنه بداية الهزيمة، وأوضح؛ سأستجيب إلى ماتريد، ونقف تحت هذه المظلة، فما الذي سيحدث؟! أجاب الجندي الزميل: أبدا ولا شيء يافندم ها نرجع تاني نشيطين إلى الطابور، ضحك الضابط وهو يقول: من يترك ميدان المعركة لحظة، ما أن يعود لن يجد ماكان عليه، ستتغير أشياء كثيرة، إضافة وهذا هو الأهم، أن النفس البشرية لا تكتفي بما تصل إليه، فما أن نقف تحت المظلة، يبدأ الارتخاء والتسيب، فأحدكم سيجلس نظرا للتعب الذي أوهمه به ظل المظلة، والثاني سينام على جانبه، والثالث سيتسلل إلى العنبر لينام هناك، وسأظل هنا جالسًا وحدى على هذه التبة الصغيرة وربما نمت أنا الآخر، وحينئذ يباغتني القائد ويفعل بي ما يشاء، الآن أقول القائد، أما لو حدث هذا في ميدان المعركة، فإن الذي سيباغتنا هو العدو.. ثابت يا أبطال.. انتباااه! هنا لا يجوز بأي حال من الأحوال تأجيل شيء، أو التراخي في تنفيذ أمر، فما تستطيع فعله في حياتك المدنية خلال شهر كامل، يمكنك أنت تنفذه هنا على أكمل وجه في ثلاثة أيام أو أسبوع على أكثر تقدير، وأنت أنت الشخص ذاته، لم يتغير فيك شيء، سوى أنك وجدت الدافع، وهل هناك أرقى وأشرف من الدافع الوطني؟! ووجدت قبل ذلك من يعيد تشغيل وتفعيل "الأزرار" المهملة في رأسك ومخيلتك.. اعمل ولا تتكلم، أو فلتعمل أولاً وبعدها تكلم.