جريدة الديار
الخميس 25 أبريل 2024 10:08 مـ 16 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

سر الشعر الأبيض .. قصة قصيرة من واقع الحياة

د.محمد لبيب سالم
د.محمد لبيب سالم

حل المساء الذي يواعدني كل ليلة بساعاته التي أنتظرها علي أحر من الجمر لأعيش حياة أخري غير حياة النهار الصاخبة التي لا أجد فيها ما يشبهني أو يشبع روحي.

حل المساء بهدوءه وسحره ، ولكني وبالرغم من الإستمتاع بموسيقاه وأغانيه وتواشيحه وخواطره ، إلا أني شعرت ببعض الملل الذي لا أدري له سببا واضحا.

حاولت أن أتنمر وأتنكر وأنقلب علي هذه الحالة من الملل المفاجيء الذي قد يكون بسبب كثرة الأعمال التي لا تنتهي ، إلا أنني لم أستطع التخلص من خيوطه العنكبوتية بسهولة.

قررت أن أنفض عني غبار هذه الخيوط وأن أقطعها عنوة.

وكان القرار أن أغير المكان وأرج الزمان وأستقل سيارتي وأجوب شوارع مدينتي التي لا تنام ولا ينام أناسها مهما اشتكي الليل والمساء.

رغم الشوارع المزدحمة , استمتعت بنسمات الهواء التي راحت تقبل وجناتي من نوافذ السيارة.

شعرت بملاطفة رقيقة من المساء عوضتني عن حالة الملل التي تملكتني وأنا حبيس الجدران الأسمنتية المزينة ببعض الألوان والديكورات الإصطناعية الجامدة الساكنة بلا حراك وكأنها تنظر عن عمد وترقب لتغيظ صاحبها.

فجأة وبدون قصد مني ، وجدت نفسي أمر بسيارتي أمام صالون حلاقة راقي أعرف صاحبه من الماضي.

شعرت براحة غريبة ملأت روحي وقلبي وألحت علي عقلي أن أتوقف هنا وأسلم علي صديقي صاحب هذا الصالون الذي لم أره منذ أكثر من عشر سنوات.

اعتاد صديقي أن يقص شعري الذي كان هناك مزدحما علي رأسي كإزدحام شوارع مدينتي ولكنه فقد بعضه بعضا الآن علي عكس ازدياد زحام الناس في رأس مدينتي فوجيء الرجل بي وأنا أنزل من السيارة في إتجاه الصالون.

قابلني بترحاب شديد جعل مسائي وكأنه أحد ليالي ألف ليلة وليلة من دفيء المشاعر التي غمرتني.

نظرات صدق المشاعر التي رأيتها في عينيه جعلت لمسائي ترياقا ومذاقا خاصا كنت قد نسيته منذ زمن كان جميلا.

شعرت بعودتي ١٠ سنوات كاملة للوراء وهو يحدثني عن الذكريات وعن وعودي له ألا أنساه وأن أتردد عليه من وقت لآخر حتي ولو قصصت شعري في صالون آخر.

اعتذرت له بسبب مشاغل الحياة التي تضحك علينا كما تريد بعيدا عن أحبابنا وتأخذ منا أحبابنا .

هو رجل لطيف تشعر معه بدفء إنساني طبيعي تماما كالعصير الطبيعي الذي تستمتع به حتي قبل أن تلمسه شفتاك.

شعور يجعلك تحلق في سماء صافية مضاءة بالمشاعر الإنسانية الساطعة.

نظر إلي شعر رأسي الذي بدا يتواري خجلا من عينيه وأخذ الباقي منه يغوص في فروة رأسي حسرة علي ما كان.

إبتسم الرجل وابتسمت وقلت هذا هو حال شعر رؤوسنا يا صديقي يكشف عن أعمارنا ولو حاولنا أن نخبأها.

جاملني ببعض الكلمات ليخفف عني خجل ابتسامتي وهو لا يعلم أني أصبحت لا أفكر كثيرا لا في طول شعري ولا في لونه ولا تصفيفه كما كنت أفعل منذ زمن.

ولكني بالطبع أصبحت أطمأن كل يوم علي بقاء الباقي منه متمنيا له البقاء والرخاء.

ابتسم الرجل وطلب مني أن يقص شعر رأسي الذي بدا له شاحبا ومهموما وقلقا وغير سعيد.

أخبرته أني لست في المزاج اليوم لحلاقة شعري فأنا لم أخرج إلا لتغيير المزاج والصدفة الرائعة أن أراك , إلا أن صاحبي ألح وأصر.

وتحت إلحاحه الذي بدا لي وكأنه قرار من جانبه ، لم أستطع أن أرفض طلبه.

شعرت أنه يريد أن يتحدث معي كما كان يحب أن يفعل. كنت اترك نفسي مستسلما بين يديه تاركا له رأسي المشغولة بالفكر وهو يفعل بخصلات شعري ما يريد. وفي كل مرة كان يفعل المستحيل ليخرج بخصلات شعري السوداء بأجمل ما يمكن فقط من أجل رسم البسمة علي شفتاي فقد كان يشعر بأنه حق الصداقة لي عليه.

وافقت علي الفور وأخذت مكاني علي كرسي الحلاقة واصطنعت أني مستسلما لأصابع يديه وأصابع المقص.

ولكني اندهشت , فلم تمر دقائق معدودة حتي أصبحت بالفعل مستسلما لحديثه ولصوت المقص العذب بين أنامله والذي لم يتغير ولم يشيخ. شعرت بمتعة وراحة حقيقية جعلتني أطلب منه أن يقصر شعر رأسي كما يشاء.

نظرت في المرآة كعادتي فهي فرصة لأتأمل ملامحي .

ولكني ما أن وقعت عيناي علي ملامحي حتي لاحظت وجود خصلات من الشعر الأبيض علي الجانبين وكأني فوجئت بها .

بدت لي هذه الخصلات هذا المساء وكأنها كطبقة من الجليد التي لونت الأرض باللون الأبيض في فصل الخريف.

إبتسمت لهذه الخصلات لأنها لم تكن هنا في هذا المكان وأنا بين يديه منذ عشرة أعوام. لوحت لها بحجبي وكأني أراها لأول مرة. لاحظ الرجل إبتسامات ملامحي وعيني وأنا أنظر إلي هذه الخصلات بـإستنكار مع أني أراها كل يوم في المرأة في الصباح والمساء ولا أعير لها أدني اهتمام بل أني أصففها جيدا لأنها هي التي مازالت هناك علي قيد الحياة ولم ترحل مثل زميلاتها علي الأركان الأخري من رأسي.

ابتسم الرجل لي بدفء وأقترح أن يصبغ هذه الخصلات البيضاء لتبدوا سمراء وتعود ١٠ سنوات للوراء. ارتفعت سماء إبتسامتي إلي ضحكة عالية جعلته يشاركني الضحكة وهو يحضر الحنة السوداء حتي قبل أن يستمع لقراري. وبالفعل بدأ يضع طبقة خفيفة من الحناء علي تلك الخصلات وكأنه يقوم ليس فقط بوظيفته المهنية ولكن أيضا وكأن الصداقة لها وظائف أخري بين الأصدقاء.

استسلمت له فلم يترك لي فرصة الإختيار. وهو يضرب بمقصه خصلات شعري البيضاء ليتخلص منها قبل أن يداعبها بالحناء ويجبرها علي الإنصياع لأمره بأن تصبر سمراء جبرا لخاطري.

أمعنت النظر وأطلت التأمل في هذه الخصلات البيضاء التي يتأفف من لونها الرجال قبل النساء. تعجبت لماذا يصيبنا تسلل هذا اللون الأبيض إلي رؤوسنا بالهلع والخجل والقلق بالرغم من أنه اللون المحبب لنا فهو لون النقاء والصفاء والسلام وهو أبو الألوان كلها.

اللون الأبيض ليس بلون في حد ذاته بل هو خليط لجميع ألوان الطيف من الأصفر والبرتقالي والأحمر والأخضر والبنفسج.

هو كل هذه الألوان جميعا دون الأسود. تعجبت لماذا نتجنب هذا اللون الرائع ونعالجه بتحويله إلي الأسود اذا رأيناه ينبت في رؤوسنا.

وتعجبت أكثر لماذا نعشق ونفتخر باللون الأسود بالرغم من أنه لون الحزن والرسميات. ما الذي يجعلنا جميعا وبلا استثناء نعشق اللون الأسود علي رؤوسنا ونفضله علي اللون الأبيض.

سرحت في هذه المعاني التي أخذتني من صديقي الذي مازال يتحدث الي عن أخباره وأخبار أولاده عندما سألته سؤالا عابرا عنهم وأنا أتأمل خصلات شعري.

أفقت علي صوته وزقزقة صوت المقص السعيد بين يديه.

سرحت في إيه يادكتور ، أنا خلصت حط الحناء علي شعرك. نظرت إلي شعري الذي أصبح في دقائق معدودة أسودا بلون الليل الهاديء وكأنه السحر.

أصبح بلون المساء الحالم الذي بدا لي متافئلا الآن وهو الذي كان منذ ساعة سببا لقلقي.

تعجبت كيف لتغيير طفيف علي جوانب الرأس أن يجعل الفرحة تدب في أعماقنا.

أهو حب التغيير أم هو توهمنا أننا عدنا خلسة عشرة أعوام إلي الوراء.

الله ينور عليك يا صديقي، ده أحلي من شعري أيام زمان.

رجعتني تاني لشوية من أيام زمان.

بصراحة اللون لون المساء الجميل. يا صديقي ، تعيش ودايما تسعد بأيامك. أصل الشعر ده بيعكس المزاج. لا بنرجع لزمان ولا حاجة ، ده بس أسلوب حياة ينقلنا من مزاج لمزاج. والله لايق عليك. سألته. طيب ، بتحب إيه أكثر يا صديقي ، اللون الأبيض ام الأسمر. رد الرجل بإبتسامة عريضة ، الأبيض طبعا في كل حاجة حتي في الشعر ، أكل العيش بقي يا صاحبي علشان نشتغل ونسعد الناس .

طيب إذا كان كده ، تفتكر لو كان الطبيعي إننا نتولد بشعر لونه أبيض ويسمر كل ما كبرنا وعجزنا ، عكس اللي بيحصل يعني ، كنا برضه ها نصبغه أبيض كل ما يسمر زي ما بنعمل دلوقتي مع الشعر الأبيض.

فوجئ الرجل بسؤالي وأومأ بإبتسامة ما زالت تزين شفتيه ، ولكن رد بفطرية ، والله يا بيه الناس كانت برضه ها تبيضه. المشكلة مش في اللون ، المشكلة في نوع اللون اللي بيفضح العمر. فلسفة الرجل الفطرية جعلتني أشعر وكأني في صالون ثقافي وليس بصالون حلاقة … عجبتني فلسفته التي جعلتني أري المساء بعيون أخري ، مساء بمزاج مختلف ، بمزاج راق جميل. فحقاً كما قال ، المشكلة ليست في الناس ولا الأشياء.

ولكن المشكلة كيف نري بعيون وروح قادرة علي تغيير معاني ألوان الناس والأشياء. رددت عليه بإبتسامة ملآنه بمداعبة الأصدقاء .طيب , إذا كان رأيك كده لو سمحت رجع خصلات شعري تاني للونها الأبيض الصافي .... خلاص يابيه ماينفعش , اللي اتغير خلاص ما بيرجعش إلا إذا بهتت عليه الأيام ... صدقت علي كلامه وهممت بالإنصراف ولوحت له بوعد علي لقاء ليس ببعيد قبل أن يبهت اللون الجديد. فتحت جميع نوافذ سيارتي ورحت أقبل نسمات الهواء في أجمل مساء وابتسم كلمة رأيت لونا ابيض علي الناس أو في البنيات.

قررت أن أعاود التجربة وأخرج أجوب شوارع مدينتي كل حين وحين كلما شعرت بالملل لعل الأرق يزول عندما نجد قلبا جميلا كنا قد نسيناه في الزمن الجميل ....

تمت تحياتي

د. محمد لبيب سالم