جريدة الديار
السبت 20 أبريل 2024 01:24 مـ 11 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الحلاج من زواية أخرى ...

د. عمر محمد الشريف
د. عمر محمد الشريف

حلاج الأسرار و شهيد العشق الألهي وشهيد التصوف، ألقاب عديدة لُقب بها الحلاج، وعند الصوفية هو بطل ملحمة الخلود الكبري، والتف حول الحلَّاج في حياته أكبر مجموعة صوفية في تاريخ القرن الثالث الهجري فيقول ابن كثير: "إنه كان يلازمه في سفره الشاق الطويل أكثر من أربعمائة من صفوة المريدين السالكين".

ويقول الواسطي: قلت لابن سريح، ما تقول في الحلاج قال "أما أنا أراه حافظاً للقرآن، عالماً به، ماهراً في الفقه، عالماً بالحديث والسنة، صائماً الدهر، قائماً الليل يعظ ويبكي".

ولد الحسين بن منصور الحلاج عام ٢٤٤هـ في بلدة تور في الشمال الشرقي من مدينة البيضاء في بلاد فارس، قرأ القرآن الكريم على أعلام القرّاء في عصره، فحفظه وهو في السابعة من عمره، وقد اضطربت أحوال والده المالية، فرحل إلى مدينة واسط ينشد العمل في ميادينها الاقتصادية الكبيرة .

انتقل الحلاج وهو في السادسة عشر من عمره إلى مدينة تستر وهي مدينةٌ في خوزستان، للتعلم علي يد القطب الصوفي سهل التستري، فتتلمذ الحلاج على يديه لمدة عامين ثم افترقا لأسبابٍ غير معروفة.

ثم رحل إلى البصرة في عام ۲۹۲هـ، استقر هناك فترة وتزوج فيها من ابنة أبي يعقوب الأقطع البصري تلميذ الجنيد البغدادي، كان هذا هو الزواج الوحيد للحلاج ورزق فيه أربعة أبناء وابنةً واحدة، وفي البصرة رافق الشيخ عمرو بن عثمان المكي وهو حجازي الأصل وكان صوفياً صارماً.

التصوف عند الحلاج جهاد في سبيل إحقاق الحق، وليس مسلكاً فردياً بين المتصوف والخالق فقط، لقد طور الحلاج النظرة العامة إلى التصوف، فجعله جهاداً ضد الظلم والطغيان في النفس والمجتمع.

كان الحلاج يرى ظلم الحكام وتكالبهم على الدنيا مما جعله يزداد في بغض الدنيا ومحبيها، فكثر أتباعه ومريدوه، واستطاع أن يدخل في قلوب مريديه مفهوماً اجتماعياً يعني بإصلاح المجتمع، مما جعل الحكام يرون فيه خطراً على سلطانهم، ومن هنا كان الحلاج في نظر الخلافة العباسية، هو الزعيم الصوفي الذي يهدد سلطانها ونفوذها، ويؤلب الجماهير ضد مظاهر الترف والإسراف.

مشكلة الحلاج كانت في ضعف قدرته على التعبير عما يجول في خاطره من خواطر قلبية وروحية، ولذلك كان أكثر فلاسفة الصوفية جدلاً واختلافاً، كما كان يرى أن باطن الشريعة أدقّ وأحق وأشمل للحقيقة من ظاهرها، وللأسف فالحلاج حتى وقتنا الحاضر لم يحظ باي إنصاف حقيقي.

ولما سئل الحسين بن منصور الحلاج عن المريد الصادق قال: "هو الرامي بقصده إلى الله عز وجل، فلا يعرج حتى يصل" .... لعل اجابته توضح لنا فكر الحلاج ومنهجه، القائم على فكرة إنكار الذات وتسخير كل ملكاته العقلية والروحية لتحقيق هدفه، كان يحس في أعماقه تلهفاً لمعرفة أرق وأدق مما يقرأه في صفحات الكتب، معرفة تمنحه المعراج الذي تصعد عليه روحه إلى هداه، وتقوم فلسفة الحلاج على ان كل ما تقع عليه العين من طبيعة جميلة، دليل على تجلي الحق في كل ما يشاهده الإنسان.

كان للحلاج نهج صوفي خاص به يمكن رؤيته في ثنايا نصوصه الشعرية والنثرية، فهو القائل:

واللهِ ما طلعتْ شمسٌ و لا غربت إلا وحبّك مقرونٌ بأنفاسي ولا جلستُ إلى قومِ أحدّثُهم إلا وأنتَ حديثي بينَ جلاسي ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا إلا وأنتَ بقلبي بينَ وَسواسي ولا هممتُ بشربِ الماء من عطشٍ إلا رأيتُ خيالًا منكَ في الكاسِ ولو قدرت على الإتيانِ جئتُكُمُ سعيًا على الوجهِ أو مشيًا على الراسِ ويا فتى الحيّ إن غنّيتَ لي طربًا فغَنِّني وَاسَفَا من قلبِك القاسي ما لي وللنّاسِ كم يلحونَني سفهًا ديني لِنفسي ودينُ الناسِ للنّاسِ

اعتمد الحلاج في منهجه على التعامل الأخلاقي الرفيع حتى مع أعداءه، تعامل يكشف عن شموخ ورفعة هذا المتصوف الكبير، ولعل خير شاهد على ذلك آخر كلماته قبل مقتله وصلبه في 23 ذي الحجة عام 309هـ/مارس 922م، حيث قال: "هؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبًا لدينك وتقربًا إليك فاغفر لهم فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت بما ابتليت، فلك الحمد فيما تفعل ولك الحمد فيما تريد".