جريدة الديار
الخميس 25 أبريل 2024 03:55 مـ 16 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

د . عمر محمد الشريف يكتب : جناية المؤرخ الجبرتي على الشهيد محمد كُريم...

د . عمر محمد الشريف
د . عمر محمد الشريف

جهز نابليون بونابرت أسطوله لغزو مصر عام 1798م، حيث أقلع من ميناء طولون متجهاً إلى الإسكندرية، وأصدر بيانه الأول للجيش الفرنسي على متن سفينة القيادة "لوريان (الشرق)" والذي يلخص فيه دوافعه للغزو، وينقل لنا نص البيان أحد ضباط الحملة الفرنسية على مصر وهو "جوزيف مارى مواريه" حيث يقول في مذكراته على لسان بونابرت: "ستقومون بغزوة سيكون لها مبلغ الأثر في الحضارة والتجارة في العالم، ستكون أكبر ضربة توجه إلى إنجلترا انتظارا لأن تقضوا عليها بالضربة القاصمة، ستكون المسيرة شاقة، ستخوضون العديد من المعارك، وسيكون النصر حليفنا لأن الأقدار في صالحنا".

وعلى الضفة الأخرى كان الأسطول الأنجليزي يحاول الهبوط لساحل الإسكندرية ليصد هجوم بونابرت، إلا أن محاولته فشلت أمام حاكم الإسكندرية السيد محمد كُريم، والذي رفض طلبهم وقال لهم بكل حزم: "ليس للفرنسيين أو سواهم شيء في هذا البلد، فاذهبوا أنتم عنا". ومع اقتراب أسطول نابليون لساحل الأسكندرية، سارع السيد محمد كُريم لطلب العون من القاهرة، وتحديداً أمراء المماليك مراد بك وإبراهيم بك، إلا أنهم لم يردوا على طلب حاكم الإسكندرية.

أيقن كُريم أن لا عون قادم، ولا بديل عن المقاومة الشعبية بالإمكانيات المتاحة، فتحصن بقلعة قايتباي، وسجل ملحمة خالدة في الدفاع عن المدينة ومعه مقاتلين شجعان ضحوا بأنفسهم دفاعاً عن تراب مدينتهم، حتى نفذتم ذخريتهم ووقع زعيمهم كُريم في الأسر.

أعجب نابليون بونابرت بشجاعة وصلابة السيد محمد كُريم، وأبقاه في منصبه على أمل أن يتعاون معه، إلا أن السيد رفض إرغام أهل الإسكندرية على دفع قرض إجباري لسلطات الإحتلال، فقُبض عليه بتهمة الاتصال بالمماليك، وحكم عليه بالإعدام في محاكمة صورية، وصدق نابليون على الحكم، ولكنه كتب له تذييلاً قال فيه: "يمكن للرجل أن يفتدي نفسه، إذا دفع مبلغ ثلاثين ألف ريال".

وقد قص الجبرتي في كتابه "عجائب الأثار" تلك الأحداث فقال: "فلما حضر الفرنسيس ونزلوا الإسكندرية قبضوا على السيد محمد المذكور وطالبوه بالمال وضيقوا عليه وحبسوه في مركب، ولما حضروا إلى مصر وطلعوا إلى قصر مراد بك وفيها مطالعته بأخبارهم وبالحث والاجتهاد على حربهم وتهوين أمرهم، فاشتد غيظهم عليه، فأرسلوا وأحضروه إلى مصر وحبسوه، فتشفع فيه أرباب الديوان عدة مرات فلم يمكن إلى أن كانت ليلة الخميس، فحضر إليه مجلون وقال له: المطلوب منك كذا وكذا من المال، وذكر له قدراً يعجز عنه وأجله اثنتي عشرة ساعة، وإن لم يحضر ذلك القدر وإلا يقتل بعد مضيها.

فلما أصبح أرسل إلى المشايخ وإلى السيد أحمد المحروقي، فحضر إليه بعضهم، فترجاهم وتداخل عليهم واستغاث وصار يقول لهم: (اشتروني يا مسلمين)، وليس بيدهم ما يفتدونه به، وكل إنسان مشغول بنفسه ومتوقع لشيء يصيبه".

وتلك الرواية التي يقصها الجبرتي أن السيد محمد كريم ترجى المشايخ واستغاث بهم قائلاً: (اشتروني يا مسلمين)، نشكك في صحتها، لأن السيد محمد كريم أظهر تعففاً عن المساومة على حياته، وقابل حكم الإعدام بكل شجاعة، حيث روى المسيو "بوريين" وهو شاهد عيان شهد المحاكمة: أن المستشرق الفرنسي "فانتور" كبير تراجمة الحملة الفرنسية، والذي تولى الترجمة في المحاكمة، نصح محمد كريم بأن يفتدي حياته بدفع الغرامة، فيما كان من الرجل إلا أن قال قولاً يكشف عن جلد وعمق إيمان هذا البطل الشهيد: "إذا كان مقدورا على أن أموت، فلن يعصمني من الموت أن أدفع هذا المبلغ، وإذا كان مقدوراً لي الحياة فعلام أدفعه؟".

تأمل معي رواية الجبرتي ورواية المؤرخين الفرنسيين، تجد أن إذا كانت رواية الجبرتي صحيحة لماذا فات على الفرنسيين ذكرها، ولماذا ذكروا رواية تصنع من خصم لهم حكموا عليه بالإعدام بطلاً في عيون شعبه، كما أن المسيو "بوريين" شهد المحكمة، بينما لم يشاهدها الجبرتي.

نفذ حكم الإعدام رمياً بالرصاص في ميدان الرميلة يوم ٦ سبتمبر ۱۷۹۸م، وقطع الجند رأس الشهيد ووضعوه على نبوت، وطافوا به شوارع القاهرة، والمنادي ينادي: "كريم، شريف الإسكندرية، حكم عليه بالإعدام لخيانته، هذا جزاء من يخالف الفرنسيس".