جريدة الديار
الخميس 25 أبريل 2024 02:41 مـ 16 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

خالد الشناوي يكتب : وحين رأيته إذا بالهيام يزداد

خالد الشناوي
خالد الشناوي

عرفته سماعا منذ عشرون عاما أو يزيد _حداثة عهدي بالتصوف_ فهمت به .

وحين رأيته إذا بالهيام يزداد...

قيثارة الإنشاد والمديح الديني ...مولانا

العاشق ياسين التهامي ......

عشرات من السنين يغرد بأعقد أشعار الفصحى في زمن انهيار الكلمة !

ينشد ويحمل الحب في زمن المادة والتحجر الفكري والروحي إزاء مد وهابي متطرف أغبر! يغزو بجلبابه الصعيدي وعمامته البيضاء أعرق مسارح لندن وباريس .

ينثر بذور الروحانية في كل بقاع الأرض في الزمن الأكثر مادية في التاريخ ! وفي زمن الجمود والخواء وتبدد المحبة لم تتوقف السماء ليلة عن التصدع إثر آهات عشقه .

لم يوقفه تردي ولا وهابية ولا إرهاب ولا مادية!

وفي كل ليله يسير فوق الماء وينفذ من ثنايا عشاقه يعتلي صهوة جواده بعينيه الذابلتين من نيران المحبة والعشق وصوتا تهدج من المناجاة وشكوى الحب والألم.

يرفع يمينه المنبسطة متلقيا نفحات العشق من علياء السماء حيث لا أين ولا بين فتقع العين على العين!

مختفيا بيساره القابضة على مسبحته الساترة لاحتراقه ! لم يترك العشق لحظة كما لم يترك التغريد في فضاء الملكوت يوما.

ياسين التهامي ولي مسير كشهب يحترق كل ليلة لينير الكون شوقا وعشقا!

وبخورا يشتعل ليضوع الكون ويسكن عطره آفاق الوجود.

جاء ياسين التهامي من قلب الصعيد بصوت دافئ ينقل أشعار المتصوفة العظام (الحلاج وابن الفارض والسهروردي ورابعة العدويةوالجيلي ).

جاء بصوته الذي يجمع بين وهج حرارة الصعيد وألق شعراء لم يجد الزمان بمثلهم. يصدح بصوت العشق والهوى ويغرد للأرواح العطشى للرحيل خلف صبابة الحب الإلهي .

قبل التهامي كانت قصائد المتصوفة من خواص الخواص؛ مكانها بطون الكتب أو حلقات الذكر ومجالس شيوخ الطرق.

فجاء ياسين بإنشاده في الموالد والميادين والحفلات ليجعله على ألسنة العوام في المدن والقرى والنجوع والأرياف .

فتسمعه مثلا عن حمال أمتعة أتعبه كثرة العمل يبرر لك عجزه عن رفع بعض المتاع قائلا: “ما حيلتي والعجز غاية قوتي”!

وقد تشكر آخر على خدمة أسداها إليك فيرد عليك: الشكر لله ثم يردف: “لم أفعل شيئًا…”

“ يترجمها التهامي في قوله :أنا قلم والاقتداء أصابع”!

"وما نحن إلا كالكتابة في الهوى سطور خيال والحروف ضمائر" وربما عبّر لك ثالث عن قلقه حيالك قائلا: “قلبي يحدثني بأنك متلفي”!

ثم لا يلبث أن يردف مؤكدًا أنه يداعبك فقط فيقول: “روحي فداك عرفت أم لم تعرف”.

ويعبر عن صراع الحياة وتسلق متاعبها واصفا اياها بالشبح المخيف في قوله: "متسلقا شبح الحياة ككاهل يحمل ضرير" وفي قوله: "كم هالني شبح الظلام وراعني صمت القبور" والجميع يرددون هذه الكلمات وغيرها المقتطعة من عيون الشعر الصوفي كثيرا، ودون إدراك لمعانيها الحقيقية غالبا بعفوية وبفصاحة لا تنم عنها بساطتهم ومستوياتهم الثقافية والاجتماعية المتواضعة!

بل إن بعضهم يكاد يحفظ قصائد بأكملها لأقطاب المتصوفة يعجز عنها كبار المثقفين، وذلك من كثرة ما رددها وراء الشيخ ياسين في الموالد والحفلات، أو لكثرة ما سمعها من أشرطة الكاسيت التي تحتوي إنشاده الديني والتي تجاوزت المائة وخمسين!

ولوعي المتصوفة بالأسرار التي وضعها الله في الأصوات الحسنة، حيث يتأثر بها الإنسان والحيوان شجعوا على السماع ويعد التأثر بهذه الأصوات من الأمور الفطرية، يقول الطوسي: «الجمال إذا عييت وقصرت عن السير، يحدو لها الحادي، فتستمع وتمد أعناقها وتصغي بآذانها...

وربما تُتلف أنفسها إذا انقطع عنها حدو الحادي من ثقل حملها وسرعة سيرها بعدما كانت لا تحس بذلك من إصغائها إلى حدو الحادي واستماعها إلى حسن نغمته».

أما أثر السماع على النفس، فقد لخصه السفاريني بقوله: «أنه مهيّج لما في القلوب، محرك لما فيها، فلما كانت قلوب القوم معمورة بذكر الله تعالى، صافية من كدر الشهوات، محترقة بحب الله، ليس فيها سواه، كان الشوق والوجد والهيجان والقلق كامنا في قلوبهم كمون النار في الزناد، فلا تظهر إلا بمصادفة ما يشاكلها».

وبذلك يكون للسماع أثر بليغ على المريدين والسالكين، حيث يمكنهم من نشوة تسري في نفوسهم فيثملون من الوجد ويغيبون عن حواسهم، ويفقدون السيطرة على جسمهم، فيهتزون وتتحرك أرواحهم فيصبح بذلك السماع قوتا لقلوبهم وتمكينها من الحنين لأصلها‏ في عالم اللطافة والأزل.

أما سمعت إلى صوت الناي وهو يبث أشواق الأنين كأنه يقول منذ قطعت من الغاب وأنا أحن إلى أصلي !

فمن لم يطرب إلى العود وألحانه والروض وأشجانه فما هو غير فاسد المزاج ليس له علاج وقديما قالوا : من لم تجد في قلبه روح المحبة فصل عليه صلاة الميت قبل وفاته !