جريدة الديار
السبت 20 أبريل 2024 03:59 صـ 11 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

«العدودة» فن الحزن الذي لا ينتهي فى الأقصر

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

"نادى المنادي وكحرت النبوت، راح إللي كان ضلهُ مالي علينا بيوت، نادى المنادي وكحرت القُله، قال أفتحوا نعشهُ وأبكي على العله، القبر ديَق ولا يسيع طولك وله يسيع إللي فوقاي يخشولك"

"أخويا شقيقي وريحة أمي فيه، أمانه يا حصى القبر خليك حنين عليه، أمانه يا مغسل قبل ما تغسل العين، ميل عليه وقولهُ أختك تروح لمين، بالله أعملو قبر أخويا زين، أخويا كان غالي و كحل العين، بالله أعملو قبر أخويا مليح، شباك يكون عالي يخُش منهُ الريح"

هذا ليس بيتًا شعريًا مخطوطًا، بل إحدى "عدودات" الرثاء الشفوية من التراث الشعبى، توارثتها سيدات الصعيد عبر مئات السنين، وتستخدمها فى رثاء أبنائهن وأزواجهن عقب كل حادث أليم أو مفجع، ورغم تغير الأنظمة السياسية، إلا أن شيئًا لم يتغير من هذا الرثاء، أو حتى طرق ترديده.

سيدات كثيرات متشحات بالسواد، جميعهن أقارب ومعارف، تجمعوا أمام منزل المتوفى فى سرادق كبير، ثم أخذن "يعددن" الواحدة تلو الأخرى، هذا هو المشهد فى قرى ونجوع صعيد مصر و بمحافظة الأقصر عقب كل حادث أو وفاة، خصوصاً إذا كان الحادث أليمًا أو مرتبطًا بكارثة.

وهناك "العدودة" تقول "قبر مين اللى البقر داسه.. قبر الحبيب اللى هجر ناسه" وأخرى، "يا اللي ابتليتي طولي بالك، انتي ابتليتي و بلوتك طالت"

"العدودة" قصائد رثائية قديمة، تناقلتها المرأة فى الصعيد عبر مئات السنين، رثاء تنوح به السيدات الشاعرات على المتوفين، وهى تتكون من أبيات شعرية، الشطر الأول فيه له نفس قافية الشطر الثانى، ولكل متوفٍ قصائده؛ فيختلف رثاء الفتاة عن المرأة المتزوجة، والشاب الصغير عن الرجل الكبير، ومن يمت فى داره، غير من مات فى غربة عن بلده وقريته، ومن هذا الرثاء: "كنت فين يا وعد يا مقدر.. كنت فى خزانة وبابها مصدّر"، و"قالوا شقية قُلت من يومى.. قسّموا النوايب طلع الكبير كومى".

اتخذت نساء الصعيد الشاعرات هذا الرثاء وهذه القصائد، لتنحن به فى الجنازات، فتبدأ إحداهن بترديد أحد، هذه الأبيات، لتردد وراءها باقى السيدات، ثم تقوم أخرى ببيت جديد، وهكذا حتى يأتى الدور على السيدة الأولى، فالعدودة تختلف من قرية إلى أخرى، ومن نجع إلى آخر.

وسعت "الديار" لجمع بعض "العدودات" التى تنشدها سيدات الحزن فى بيوت فقراء الصعيد ليودعوا موتاهم بالجلال الذى يستحقونه، فوجدنا من "العدودات" أنواع كثيرة حسب نوع الميت ذكر أو أنثى ، وحسب عمره، والطريقة التى مات بها الخ.

تقول عدودة الفتاة التى ماتت على وش جواز مخاطبة قبرها: "جايلك عروسة محنية الكفوف والكعب، خدت معاها الحنة وسابت وجع القلب" .

أما عدودة الأم التى تموت تاركة خلفها أولادها الصغار فتقول: "غراب البين عالنخيل يبكي، عاللي تفوت عيالها وتمشي، غراب البين عالنخيل ينوح، عاللي تفوت عيالها وتروح"، وتقول أيضا: "من يوم فراقك والشاي في دارنا بطلناه، وشايك مع الحفار شيعناه".

لكن تقول عدودة الام التي توفىَ لها أولادها: " لمام يا تراب لمام.. خدت الصبيه والجدع العجبان"

وتقول عدودة الشاب الصغير الذى وافاه الأجل المحتوم: " ياعود طري واتلوي، ميل ومال على الارض، امبارح كان في وسطنا، والليلة تحت الارض " وأما من مات زوجها فتقول "جالي جوزي لما يقعد جاري.. لما يلاقيني ويسلم عليّ سلام يرضيني، وبعد السلام يقعد يخاليني (تقصد يخلو بها).

وتقول الزوجة التى مات زوجها وكانت تراه ذا قدر عند قومه: "كنت فين يا وعد يا مقدر، دي خزانة وبابها مصدر، يارجاله عدوا عمايمكم، عمه كبيره غايبه عنكم "و "طلعت الجبل على ذمة القاهم.. لقيت التراب والحصى سواهم.. كل الناس قربها مسنودة على الحيط.. إلا قربتى مكسورة ومرمية تحت الحيط.. لما دخل الدكتور ببدلته البني.. كشف عليك الملاية وقال يامري.

وتقول عدودة الشاب الذي مات علي غلفه أثر مشاكل أو ثأر: "اتنين عليك واتنين على النخلة.. خدوك يا حبَيِب ساعه الغفله"

وتقول الزوجه عندما مات زوجها مأذون القرية، لتطالب حفار قبره ألا يسرع فى الحفر، ويتمهل حتى يمكث عامًا كاملًا، وأنها عبرت عن حبها الشديد لزوجها الراحل، بلغة قوية، "يامغسل متغسلهوش قوام.. خليه يونسنا.. وأحفر له قبره فى عام.. ده القاضى يوحشنا"

وهناك عدودة تقول عندما يقع شخص قتيل "يا نايحة نوحي عليه نوحي، فلان اتمدد على اللوحِي، زقزق يا عصفور وازعق يا غراب، فلان مقتول ومرمي في الخراب"

"فن العدودة" أهم فنون الحزن التى تميز بها صعيد مصر، أى البكاء على الميت ورثائه ، ووصف طعم الحياة بدونه، إنك تجد ذلك الفن التلقائى الشعبى تتداوله ألسنة نساء الأقصر فى المآتم، تتناقلنه وتتوارثنه عن آمهاتهن وتورثنه لبناتهن جيلا وراء جيل.

لذا هى رثاء شعبي، ونغم حزين يحرض علي البكاء، وينشط الذاكرة عن الفقد بشكل عام، وهى من العادات القديمة في قرى الصعيد، ومازالت مستمرة نسبياً، فالعديد مهنة تمتهنها سيدات محددات يمارسن نشاطهن في المآتم.