جريدة الديار
الإثنين 18 أغسطس 2025 07:28 مـ 24 صفر 1447 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

تشكيل لجنة مدنية لإدارة غزة: رسالة قوية من مصر

في مشهد تاريخي لم يشهده الفلسطينيون منذ ثمانية عشر عامًا، جاء الإعلان عن تشكيل لجنة مدنية لإدارة غزة من أمام معبر رفح لا من رام الله ولا من غزة، بل اختيار المكان لم يكن عشوائيًا فحسب، بل رسالة صريحة بأن القاهرة هي صاحبة الكلمة العليا في هذا الملف، وأن الشرعية تمر عبر البوابة المصرية وحدها، باعتبارها شريان الحياة الحقيقي للقطاع، وثمرة مجهود سنوات، فجاء خطاب الدكتور محمد مصطفى، رئيس الوزراء الفلسطيني ليضع حدًا لهذا الفراغ ويؤكد أن اللحظة لم تعد تحتمل الترف السياسي أو الحسابات الضيقة. ما طرحه يمثل معدن حركه فتح الأصلية سياسيًا ومهنيًا، فلا سبيل لإدارة غزة سوى بلجنة مدنية انتقالية برعاية مصرية، تتكون من شخصيات تكنوقراط وأمنية وإدارية، بعيدًا عن المحاصصة الحزبية والفصائلية في خطوة انتقائية، تلك الحركة التي وُلدت من رحم النضال الفلسطيني وكانت وما زالت العنوان الأبرز للشرعية الوطنية، سياسيًا ومهنيًا، مازلت تقود المشروع الوطني لعقود تثبت اليوم أنها قادرة على تجديد دورها، عندما تُترجم المواقف إلى رؤية واضحة تحفظ القضية وتكسر الحصار، فإن قياداتها، تبقى هي العنوان الأصيل للشرعية الوطنية، لأنها بنت مشروع الدولة الفلسطينية منذ انطلاقتها، وهي التي تمتلك القدرة على ترجمة السياسة إلى فعل عملي يعيد ترتيب الأوراق.

وتمثل اللجنة صيغة انتقالية متوازنة، ليست حكومة كاملة ولا سلطة تنفيذية مطلقة، لكنها تضم شخصيات تكنوقراط إلى جانب كوادر أمنية وإدارية، لتكسر احتكار حماس للإدارة وتفتح الباب أمام إشراف عربي ودولي مقبول، في طليعته مصر والجامعة العربية وربما الأمم المتحدة. هنا تتبدد معادلة الأمر الواقع التي حكمت غزة لسنوات طويلة، ويعود المشهد إلى شرعية فلسطينية جامعة بإسناد عربي قوي، فطالما أرادت القاهرة بهذا المؤتمر أن تقطع الطريق على أي مساومات دولية لإدارة غزة تحت وصاية أممية أو إقليمية بلا الفلسطينيين. الإعلان من رفح يعني أن غزة لن تُدار من الخارج، بل من الداخل، لكن ببصمة مصرية تحكم الإيقاع.
يبرز الدور المصري بوضوح كضامن ورئيسي، لا وسيط عابر. فمفاتيح المعابر في يد القاهرة، وضبط الحدود وإدارة المساعدات لا يتم إلا بتنسيق كامل معها. مصر وضعت بصمتها وأعلنت أن لا لجنة ولا إدارة ولا ترتيبات يمكن أن تنجح من دون حضورها. إنها ليست راعية فحسب، بل شريك كامل في رسم مستقبل غزة، توضح الرسائل التي كانت متعددة الاتجاهات: إلى حماس أن زمن الانفراد انتهى وأن الانخراط ممكن لكن تحت سقف اللجنة لا فوقها، وإلى إسرائيل أن غزة لن تبقى في حالة فراغ إداري أو تحت إدارة دولية بحتة، فالسلطة الفلسطينية عادت ومصر معها، وهو ما يقطع الطريق على أي محاولات للعب على التناقضات، فطالما راهنت إسرائيل على إبقاء غزة في حالة "لا سلطة ولا دولة"، حالة فراغ تدفع نحو مشروع إدارة دولية أو وصاية مشبوهة، لكن الإعلان اليوم قطع الطريق على تلك المشاريع، وأعاد التأكيد أن الشرعية الفلسطينية موجودة، وأن مصر لن تسمح بترك غزة رهينة في يد أحد، فإن القاهرة لم تطرح إقصاءً مباشرًا، لكنها صاغت معادلة "انخراط تحت سقف اللجنة أو عزلة". هذه الصيغة تسمح بامتصاص أي رفض حمساوي أولي، وتضعها أمام خيارين لا ثالث لهما بالنسبة لحماس وأحلاهما مر: إما المشاركة تحت الشرعية الفلسطينية وإما ترك الميدان.
على الصعيد الدولي، الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة سيرحبان بهذه الصيغة لأنها توفر إدارة مدنية محايدة بعيدة عن القتال، وتفتح الطريق لإعادة إعمار غزة وترتيب أوضاعها دون الدخول في متاهات سياسية معقدة. بهذا تصبح اللجنة فرصة لتثبيت الاستقرار ومنع الانزلاق إلى مشاريع مشبوهة تُبقي غزة رهينة، فكانت الرسالة إلى المجتمع الدولي أيضا، أنه هناك صيغة مدنية قابلة للحياة، تقودها السلطة الفلسطينية بضمانة عربية، وبالتالي لا داعي لمغامرات خارجية ولا المشروع الترامبي المزعوم.

و ما طرحه الدكتور مصطفى لا يمكن فصله عن الحراك المصري المستمر منذ شهور من خلال استمرار اجتماعات الفصائل في القاهرة رغم الخلافات الجوهرية لم يكن مجرد حوار عقيم، بل محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وزيارته جاءت لتكمل هذا المسار وتضعه في الإطار الرسمي، لأنه ليس مجرد نقاش فصائلي، بل موقف دولة فلسطين، متقاطع مع الجهد المصري لكنه مختلف عنه في طبيعته، فالمزايدون علي الدور المصري لابد أن يصيبهم الخزي والعار.
ويمثل هذا التلاقي بين الدور المصري والخطاب الفلسطيني الرسمي، أن الأمور ذاهبة بوضوح نحو تثبيت صيغة انتقالية تضمن وقف المقتلة وتفتح الطريق أمام إعادة إعمار القطاع وترتيب أوضاعه السياسية. إنها محاولة جدية لإعادة غزة إلى الشرعية الفلسطينية، وكسر كل محاولات عزلها أو إبقائها في حكم الأمر الواقع،و إن مصر تبعث برسالة غير مباشرة إلى واشنطن وتل أبيب معًا: من دون القاهرة لا شرعية ولا استقرار، لذلك أي محاولة لتجاوز مصر أو فرض معادلة بديلة ستفشل، لأن المفاتيح كلها بيدها من المعابر إلى الشرعية السياسية.
اليوم، يمكن القول إن غزة استعادت مكانتها بعد سنوات العزلة، وأن مصر أثبتت مجددًا قدرتها على الإمساك بملفات المنطقة الأكثر تعقيدًا. المشهد من رفح لم يكن مجرد إعلان إداري، بل كان إعلان انتصار سياسي ومعنوي.