الإغلاق الأمريكي... أزمة تزلزل واشنطن وتمنح مصر فرصة ذهبية
تشهد الولايات المتحدة، صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، حالة شلل مؤسسي بهذا الحجم.
منذ مطلع أكتوبر 2025، تعيش واشنطن على وقع أطول إغلاق حكومي في تاريخها الحديث، بعدما فشل الكونجرس الأمريكي في تمرير موازنة جديدة أو اعتماد تمويل مؤقت لتسيير أعمال الدولة.
مشهد يعكس هشاشة المؤسسات الأمريكية، ويكشف أن ما كان يُقدَّم للعالم على أنه نموذج في الكفاءة الديمقراطية، ليس سوى منظومة يمكن أن تتعطل بضغطة زر حزبية أو بقرار سياسي متعنت.
اقتصاد متجمد ومؤسسات معطلة
الإغلاق الفيدرالي في أمريكا يعني ببساطة توقف جزء كبير من الدولة عن العمل:
مئات الآلاف من الموظفين أُجبروا على الجلوس في منازلهم دون رواتب، مكاتب وجوازات وتأشيرات توقفت، بيانات اقتصادية لم تصدر، ومطارات قلّصت رحلاتها لنقص المراقبين الجويين الذين يعملون بلا أجر.
الولايات المتحدة التي كانت تُصدّر للعالم مفهوم “الاستقرار المؤسسي”، أصبحت اليوم نموذجًا للفوضى السياسية والاقتصادية، وهو ما جعل الأسواق العالمية كلها في حالة توتر وترقب.
ووفقًا لتقديرات مكتب الميزانية في الكونجرس، فإن استمرار الإغلاق لأسابيع قليلة سيكلف الاقتصاد الأمريكي من 7 إلى 14 مليار دولار، أي ما يعادل الناتج المحلي لدول بأكملها في العالم النامي.
الرسالة واضحة: لا أحد في مأمن من ارتدادات الأزمة الأمريكية.
ارتباك عالمي وفرص إقليمية
فكلما اضطربت واشنطن، اضطربت الأسواق العالمية.
أسعار الذهب ترتفع، الدولار يتأرجح، والاستثمارات تتحرك في اتجاهات غير متوقعة.
لكن وسط هذا الارتباك، تظهر لمصر — بقيادة حكومة الدكتور مصطفى مدبولي — فرصة يمكن تحويلها إلى مكسب حقيقي، إذا تم التعامل معها بذكاء واستباقية.
الاقتصاد الأمريكي هو قلب النظام المالي العالمي، وكل نبضة غير منتظمة فيه تُحدث رجفة في أسواق المال والبورصات من طوكيو إلى لندن، ومن فرانكفورت إلى القاهرة.
لكن مصر اليوم ليست كما كانت عام 2008.
ففي ذلك العام، كانت الاقتصادات النامية — ومن بينها مصر — أكثر هشاشة أمام تقلبات الخارج.
أما الآن، فالوضع مختلف تمامًا:
اقتصاد أكثر تنوعًا، مشروعات قومية ضخمة، وبنية تحتية جذبت أنظار العالم، واحتياطي نقدي قوي مكّن الدولة من الصمود في وجه أزمات أشد قسوة، مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية ،وهو ما يمنحها اليوم ميزة تنافسية نادرة في منطقة تبحث فيها رؤوس الأموال عن الاستقرار قبل الأرباح.
فرصة مدروسة لجذب الاستثمارات
الإغلاق الأمريكي سيجبر العديد من الشركات متعددة الجنسيات على إعادة النظر في توزيع استثماراتها عالميًا.
ومصر تمتلك في هذا التوقيت نقاط قوة لا يمكن تجاهلها:
موقع استراتيجي يربط ثلاث قارات عبر قناة السويس.
شبكة بنية تحتية حديثة تربط المدن الصناعية بالموانئ.
إصلاحات تشريعية ومالية جعلت بيئة الاستثمار أكثر وضوحًا وجاذبية.
إن تحرك الحكومة المصرية بسرعة نحو هذه الشركات، وتوسيع الحوافز الموجهة للمستثمرين الصناعيين، يمكن أن يفتح الباب أمام موجة جديدة من الاستثمارات الإنتاجية، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا، والطاقة، والخدمات اللوجستية.
انعكاسات مالية على المدى القصير
من الناحية المالية، سيؤدي الإغلاق الأمريكي إلى ارتفاع مؤقت في أسعار الذهب، وزيادة الطلب على الدولار.
ورغم أن ذلك قد يرفع فاتورة الواردات، فإنه في المقابل يعزز من قيمة الاحتياطيات المصرية ويشجع المستثمرين على التعامل مع سوق ناشئة آمنة ومستقرة.
كما أن أي تباطؤ في الاقتصاد الأمريكي سيدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى تخفيف سياساته النقدية، وهو ما يعني عودة جزء من رؤوس الأموال إلى الأسواق الناشئة، وفي مقدمتها السوق المصرية.
مصر.. عقل بارد في زمن العواصف
إن قدرة الدولة المصرية على تحويل الأزمات العالمية إلى فرص تنموية لم تعد صدفة، بل أصبحت منهجًا واضحًا في إدارة الملفات الاقتصادية.
الإغلاق الأمريكي قد يربك العالم، لكنه بالنسبة لمصر يمكن أن يكون بابًا لزيادة الثقة في الاقتصاد الوطني، إذا استمرت الحكومة في سياساتها المتوازنة، واستثمرت في الترويج الدولي لقدراتها.
فالعالم اليوم يبحث عن “الاستقرار” كعملة نادرة، ومصر — رغم التحديات — تقدم نموذجًا لذلك الاستقرار وسط بحر من الاضطرابات.
كلمة أخيرة
الأزمات الكبرى لا تميز بين القوى العظمى والدول النامية، لكنها تفرز دائمًا من يعرف كيف يديرها بعقلانية ورؤية.
والإغلاق الأمريكي، بكل ما يحمله من فوضى داخلية وارتباك عالمي، قد يكون فرصة لمصر لتؤكد للعالم أن القوة ليست في حجم الاقتصاد، بل في صلابة الإرادة ووضوح الرؤية.
إن ما يجرى فى الأسواق العالمية اليوم ليس مجرد اضطراب عابر، بل إنذارات مبكرة لعاصفة اقتصادية قد تتجاوز آثار أزمة 2008، التى هزّت آنذاك ركائز النظام المالى الدولى. ومن ثمّ، فإن على الحكومة المصرية أن تتعامل مع المرحلة المقبلة بوعى استباقى لا بردّ فعل متأخر، وأن تُعيد النظر فى أولوياتها الاقتصادية لتصون ما تحقق من استقرار وسط هذا الإعصار القادم.
لقد أثبتت تجربة 2008 أن الدول التى واجهت الأزمة بعقلية “التحصين المبكر” خرجت أقوى، بينما من انتظر حتى انكشاف العاصفة دفع الثمن غاليًا. واليوم، ونحن نرى تباطؤًا فى الاقتصاد العالمى، وتراجعًا فى معدلات الاستثمار، وتوترات جيوسياسية تضرب الأسواق، فإن مصر أمام فرصة نادرة لتكون بين الفريق الأول لا الثانى؛ بأن تُسرّع من دعم الإنتاج المحلى، وتوسّع من مظلة الحماية الاجتماعية، وتُعيد هيكلة أولويات الإنفاق نحو ما يُدر عائدًا حقيقيًا للمواطن والاقتصاد معًا.
إن الحكمة الآن ليست فى الخوف من الأزمة، بل فى الاستعداد لها، وتحويلها إلى حافز لإصلاح أعمق، يعيد بناء الثقة فى قدرة الدولة على إدارة الأزمات، كما فعلت من قبل فى أحلك الظروف. فالأزمات لا تقتل الأمم، إنما يقتلها غياب الرؤية.

















