جريدة الديار
السبت 20 أبريل 2024 03:04 مـ 11 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

صبري الموجي يكتب: بلح.. بلسع الدبابير !

صبري الموجي
صبري الموجي

صبري الموجي يكتب: بلح.. بلسع الدبابير !كان صديقي (ع.م) أكبر مني بعامين، جعلاه صاحبَ دراية وخبرة بمواقف كثيرة كنتُ أجهلها، أو هكذا كانت وما زالت أعرافُ قُرانا وريفنا، والذي خلَّد سكانه عبارة ( أكبر منك بيوم، يعرف عنك بسنة)، تلك العبارة التي تلقفتها البنتُ عن أمها، وجعلتها قرطا في أذنها، وتلقاها الابنُ عن أبيه، واتخذها شعارا في حياته، يستمسكُ به، ويعلمُه لأولاده من بعده !

لم ينل صديقي هذا التكريم عن استحقاق، فلم يكن خبيرا بكل شيء، بل فرضت عليه ظروفه الأسرية، حيث كان الذكر الوحيد لوالديه مع إخوة بنات، أن يتحمل مهام جساما من وجهة نظري أنا، قبل أن يخط شاربه فوق شفتيه.

لم تكن لصديقي درايةٌ بأعمال الحقل، من زرع وحصاد، وتقليب للتربة، وتنقيتها من الحشائش والديدان، بل كان دوره لا يتجاوز القيام بعملية الري بواسطة ماتور لسحب المياه من الترعة، وضخها لري أشجار المشمش.

ورغم أنها مُهمة سهلة يُحسنها الطفلُ بمجرد خروجه من بطن أمه، إلا أنني كنتُ أجهلها؛ لأنني كنتُ لا أعرف في شئون الفلاحة (الألف من كوز الذرة).

خرج صديقي (ع. م) يوما لري الحقل، فكنتُ في صحبته أنيسا لا مُساعدا، يصدقُ عليّ لجهلي بشئون الزراعة مثل : (وأيش  ياخد الريح من البلاط؟ ).

وصلنا للحقل وقام صديقي بتوصيل خرطوم سحب المياه من الترعة بماكينة الري، وشَدّ (حبل) التدوير لأعلي، فدارت ماكينة الري بصوتها المزعج، وخرج من فوهتها شلال الماء ليتجمع في حوض من الطوب الاحمر مُغطي بطبقة من الأسمنت، لينساب بعدها في جدول يحمله للأرض العطشي، فتنغمر به شقوقها، وتنبعث الحياة في جذوع أشجار المشمش وأغصانها، فيزداد  اخضرار الأوراق ونضارتها.

كان تدويرُ ماكينة الري، هو مهمة صديقي الوحيدة، والتي يجلس بعدها لا عمل له، حتي تنغمر الأرض بالمياه، فيُسرع إلي إيقاف الماكينة، حتي لا يفيض الماء علي أرض الجيران.

وحتي نضيع فترة الانتظار المملة، كنا نفتش لنا عن وسيلة لهو ولعب، والتي كانت إما مباراة كرة قدم بكرة مصنوعة من شراب محشو بإسفنج أو قماش قديم، أو لعبة (الاستغماء)، حيث يُغمض أحد الأفراد عينيه، حتي يختفي بقية اللاعبين، ثم يظل يبحث عنهم، ومن تقع عليه عينه، يتولي هو مهمة البحث عن الآخرين، وهكذا دواليك.

وذات مرة قرر صديقي بعد تشغيل ماكينة الري عدم اللعب والاستغناء عن ذلك بصعود إحدي أشجار النخيل لجمع الرطب، ولم أملك إلا هز الرأس بالموافقة، وإلا صرتُ حسب أعرافهم مارقا يستحقُ عقاب زعيم (الحتة) من الصبيان، وتكون العقوبة الحرمان من اللعب معهم عدة أيام، وتولِّي مهمة حراسة أمتعتهم أثناء اللعب .

صدر فرمان صديقي بأن يصعد هو لأعلي النخلة ليجني الرطب، وأظلُ أسفلها أحرس أمتعته، وأنتظر ما تجود به عليَّ نفسه، بعد أن يأكل أفضل ما يجني، وينزل لي بما أصابه العطبُ، أو أكلته (الغربانُ والعصافير).

شرع صديقي الأكبر في الصعود، وجلستُ أعض شفتي، متسائلا متي أكبر وأصير الآمر الناهي ؟

متي يحق لي إصدارُ فرمانات علي من هو أصغر مني ولا يجرؤ علي تكسيرها؟

ظل صديقي يغني بصوته الأجش وهو يصعد النخلة، وكلما اقترب من (سُباطة) البلح ارتفع صوته تعبيرا عن شدة الفرح، في المقابل كانت تزداد لوعتي كلما اقترب من الرطب اليانعة، التي سيلتهم أطيبها ناسيا من يحرس أمتعته في أسفل.

كان صوت صديقي يملأ الأفق ضجيجا، وهو يقول : ( ووو..ووو..ووو .. يا بلح زغلول.. جاي لك علي طول، ومرة يقول : البلح البلح البلح.. أحمرْ وأسمرْ زغلول، زغلول)، كان جسمُ صديقي البض يتراقص علي شجرة النخيل وهو يُكرر كلمة زغلول، حيث يُحكم إمساك شجرة النخيل بيديه، ويهز نصفه العلوي باقترابه وبُعده من الشجرة.

وصل صديقي لقمة النخلة، وقبل أن تقطف يدُه الثمرة الأولي، أمسكتْ بعش (دبابير) حمر، فهاجت الدبابير وماجت، وأسرعت تُحارب صديقي الصائل، وتطارده لسعا ودويا، مما أغراه بأن يلقي بنفسه من أعلي الشجرة، دون أن يطاوعه قلبه مخافة الموت المحقق .

تمسك صديقي بقاعدة أخف الضررين : وهي اللسعُ أهونُ من الموت، وظل ينحدر من أعلي النخلة كجلمود صخرٍ حطه السيلُ من عل، مُتحملا لسعات النحل، وشدة الاحتكاك بجذع النخلة الخشن، وهو يصيح صياحا تختلف نبرته ونغمته عن صياحه أثناء الصعود، حيث انعقد لسانه علي كلمة أأأأأأأأ، مُلتصقا بسقف حنكه، دون أن يقوي علي غلق فمه أو النطق بالهاء، لتكتمل كلمة (آه)، التي ربما تُخفف من شدة ألمه.

ظل صراخ صديقي يتعالي، ليزداد معه هياج الدبابير التي أوسعته لسعا، حتي وصل إلي الأرض وقد تورمت كتفه، وغطي ورمُ حاجبيه حدقتي عينيه..

نزل صديقي للأرض وبدلا من أن ينعم بوجبة رطب يانعة، تلطخت كتفه وذراعه بالطين لتخفيف شدة الوخز، وشغلنا لطخُه بالطين عن إيقاف ماتور المياه التي فاضت علي أرض الجار، فارتفعت عقيرته .

عاني صديقي ألم الوخز وتوبيخ الجار، هنالك حمدتُ الله، وقبلت يدي (وجها وظهرا) لأنني كنتُ حارس ملابسه، ولم أصعد معه لجني الرطب اليانعة .