رأفت عبد العظيم يكتب : الشيخ سليمان الجوسقى .. الضرير الذى تحدى نابليون بونابرت

فى قرية الجوسق إحدى قرى محافظة الشرقية ولد الشيخ سليمان الجوسقى ، وهو رجل ضرير درس بالأزهر الشريف ، وعرف عنه أنه من عائلة ثرية ويتميز بالذكاء الحاد .. وكان نقيب للعميان فى كل أنحاء مصر حيث يرعى مصالحهم ويستمع لشكواهم ، فأصبح موضع ثقتهم ويأتمرون بأمره ، وكان لهم بمثابة الأب الروحى ...
وجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر فى ٢٨ يونيو سنة ١٧٩٨ بقيادة نابليون بونابرت الذى حاول بكل السبل تجنب ثورة المصريين ، بل تودد إليهم فأعلن إحترامه للدين الإسلامى والمسلمين ، وإنه لم يأت سوى لمحو سلطة المماليك وإنقاذ البلاد من ظلمهم وإستبدادهم ، ووصل به الأمر إلى مشاركة المسلمين فى أعيادهم ومواسمهم ، وإستعان بعدد من علماء الأزهر فى إصدار بيان للأمة تحت عنوان " نصيحة للأمة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة " ... وفى هذا البيان حذروا من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن هناك بعض الأشرار يحركون الشرور بين الرعية وإنهم يسعون فى الأرض فساداً ، لذا ينصحونهم بألا يلقوا بإيديهم إلى التهلكة وأن ينشغلوا بأسباب معيشتهم وأمور دينهم وأن يدفعوا الخراج وأن الدين النصيحة ...
كان هذا البيان ضربة فى ظهر ثوار مصر ، وأيضاً أصبح الدين النصيحة هو الرضا بالذل والهوان والإحتلال وطاعة المحتل الغاصب ..
وهنا سطع نجم الشيخ سليمان الجوسقى الذى رفض البيان رفضاً تاماً وأعلن العصيان على أى أمر يصدره نابليون بونابرت ... وإندلعت ثورة القاهرة الأولى فى أكتوبر ١٧٩٨ ، وكان الشيخ الجوسقى من ضمن المشاركين فيها والمحرضين عليها ، وخشى نابليون أن يفلت الأمر من بين يديه فقام بنصب المدافع فى القلعة وضرب بها القاهرة بوحشية منقطعة النظير ، فهرب الثوار من قسوة وعنف القصف وذهبوا للشيخ الجوسقى فقال لهم بحزم " أذهبوا إليهم فأما أن تبيدوهم أو يبيدوكم وهو خير لكم فى كلتا الحالتين لأنكم تحيون كالموتى وتزحفون كالأفاعى وتموتون كالذباب " ...
وكانت هذه الكلمات الصارخة سبباً فى إندفاع الثوار دون خوف أو حرص على الحياة .. ولم يعجب كلامه أحد المشايخ الذى ذهب إلى الشيخ الجوسقى وقال " ياشيخ جوسقى .. إنك تثير الجماهير وهذا سيأتى بأسوأ العواقب " .. فما كان من الشيخ الجوسقى أن صفعه على وجهه وقال بأعلا صوته " أخرس ياكلب .. تحفظ كلام الله وتنطق بكلام الفرنسيس " ...
وكما قلنا فى بداية المقال إن الشيخ الجوسقى كان ثرياً فأخرج كل مالديه من مال لشراء السلاح لمحاربة الفرنسيين ، وإستخدم بذكاء نادر العميان ليأتوا له بأخبار الفرنسيين وأماكنهم فيتم عمل أكمنة لهم وقتلهم والإستيلاء على سلاحهم .. كما إستخدم العميان فى نقل الذخائر للثوار وقد إقترح عليه الثوار أن يقود بنفسه الثورة فقال " أعمى يقود أمة من المبصرين .. ياويلكم ياقوم " ..
وعلم نابليون أن الشيخ الجوسقى هو كلمة السر فى ثورة المصريين فألقى القبض عليه وحاول إستمالته وقدم له الكثير من العروض المغرية ، وكان الشيخ الجوسقى يرفض .. فقال له نابليون " أنا احب الإسلام شيخ ( كوسكى) وأحب تطبيق الشريعة ، ضع يدك فى يدى وأنا أجعلك حاكماً على مصر " .. ويقال أن الشيخ وافقه ظاهرياً ومد يده له وكأنه يريد مصافحته ، فإذا بيد الشيخ ترتفع وتهوى على صدغ نابليون وأخذ قلماً لم يأخذه فى حياته ... وقد عبر الأديب الكبير الراحل على أحمد باكثير على هذا الموقف فى رائعته " الدودة والثعبان " فقد قال على لسان الشيخ سليمان الجوسقى "معذرة يا نابليون هذه ليست يدى ، هذه يد الشعب " ..
وقد إستشاط نابليون غضباً لرفضه َماعرضه عليه فأمر بقتله وإلقاء جثته فى النيل ، لكن لم يتم إعدامه لكونه كفيف ، وظل بالسجن عدة أشهر حتى لقى ربه ..
رحم الله الشيخ سليمان الجوسقى وجعل ماقدمه لوطنه فى ميزان حسناته .