العدالة والمؤسسات: ماذا يعني حكم المحكمة العليا لقطاع النفط في ليبيا

تشهد صادرات النفط الليبي نموًا ملحوظًا من جديد. فقد بلغ الإنتاج 1.4 مليون برميل يوميًا في أغسطس 2025، مع خطط للوصول إلى 2 مليون برميل يوميًا بنهاية العام. عادت الشركات الدولية إلى السوق، وارتفع الطلب من أوروبا وآسيا، مما أعاد ليبيا إلى خريطة الطاقة العالمية.
لكن خلف هذه الأرقام يبرز سؤال أعمق: هل تستطيع مؤسسات ليبيا مواكبة الزخم؟ حكم المحكمة العليا الصادر في 29 يونيو 2025 قدّم إجابة لافتة. فبإلغائه حكم يوليو 2023 ضد عماد بن رجب، ذكّر الجميع أن العدالة ليست تفصيلًا ثانويًا، بل ركيزة أساسية لاستقرار قطاع الطاقة.
في 29 يونيو 2025، أصدرت المحكمة العليا حكمها في الطعن الجنائي رقم 3050/70، حيث قبلت الاستئنافات المقدمة من النيابة العامة والمتهمين. ألغت المحكمة حكم يوليو 2023، وأعادت القضية إلى محكمة استئناف طرابلس لمراجعتها أمام دائرة أخرى.
الأثر كان مباشرًا: الإدانة السابقة لم تعد قائمة قانونًا، وجميع العقوبات والغرامات المرتبطة بها أُلغيت. وأكد مكتب النائب العام أن عماد بن رجب لم يعد يحمل سجلًا جنائيًا.
تُعد المحكمة العليا في ليبيا أعلى سلطة قضائية، وقراراتها نهائية وملزمة من يوم صدورها. وهذا يعني أن الإلغاء حسم الجدل قانونيًا، وأعاد الوضوح في قضية أثقلت كاهل المؤسسات وقطاع الطاقة معًا.
هذا الحكم ليس مجرد إجراء قانوني، بل اختبار لكيفية تعامل ليبيا مع خبرائها. فالملاحقات المسيّسة لا تُضعف الثقة فحسب، بل تُعرّض الاستثمار للخطر. وعندما يُستهدف التكنوقراطيين دون أسس تقنية واضحة، يفقد النظام بأكمله مصداقيته.
قضية عماد بن رجب أبرزت هذه الإشكالية. فقد أمضى سنوات في المؤسسة الوطنية للنفط، حيث أدار صادرات الخام، وملفات تبادل الوقود، ومثّل ليبيا في اجتماعات أوبك. كما كان نقطة اتصال مع الأمم المتحدة بخصوص تهريب الوقود، وهو دور أشار إليه مجلس الأمن في تقاريره. ورغم ذلك، وجد نفسه عام 2023 في قلب ملاحقة قضائية أثارت الشكوك حول دوافعها.
هذه التجربة ليست فريدة. كثير من المهنيين في ليبيا يعملون تحت خطر الاتهامات المسيّسة، ما يهدد سمعتهم ويؤدي إلى عزوف الكفاءات عن العمل العام، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد إلى خبرتهم أكثر من أي وقت مضى.
إلغاء الحكم لا يصحح ظلمًا فرديًا فحسب، بل يسلّط الضوء على ثلاث حقائق أساسية:
-
حماية المهنيين من التسييس: بدون ضمانات، يصبح التكنوقراطيين عرضة للإقصاء لا بسبب الأدلة، بل بفعل الصراع السياسي.
-
أهمية الشفافية: غياب قواعد واضحة في عقود الوقود جعل نزاعات فنية تتحول إلى قضايا جنائية. اعتماد معايير اختبار ورقابة مستقلة كان سيمنع ذلك.
-
ارتباط سيادة القانون بالاستقرار: النفط يشكّل أكثر من 90٪ من إيرادات ليبيا. وعندما تُدار النزاعات بعدالة، تتعزز ثقة المواطنين والشركاء الدوليين معًا.
المستثمرون لا يحكمون على ليبيا فقط من خلال حجم احتياطاتها، بل من خلال قوة مؤسساتها. سيادة القانون لا تقل أهمية عن الجيولوجيا. حكم المحكمة العليا أرسل رسالة بأن الأحكام المسيّسة يمكن عكسها، وأن الإجراءات السليمة ما زالت تعمل.
بالنسبة لشركات كبرى مثل BP وشل وإيني وشيفرون وتوتال إنرجيز التي عادت إلى ليبيا، فإن مثل هذه القرارات تعني الكثير. فهي تبحث عن عقود تُحترم ونزاعات تُدار بعدالة، لا عن وعود قد تنهار عند أول خلاف سياسي.
الطريق إلى الأمام
يمكن لليبيا تحويل هذه اللحظة إلى نقطة انطلاق لإصلاح أوسع، عبر خطوات واضحة:
-
بناء إطار قانوني يحمي المهنيين من التهم المسيّسة.
-
توسيع دور الرقابة المستقلة في العقود والمناقصات.
-
الاستثمار في معايير فنية موحدة ومختبرات معتمدة بالموانئ.
-
تعزيز ثقة المواطنين والمستثمرين عبر شفافية أكبر وربط العدالة بالاستقرار الاقتصادي.
إلغاء حكم يوليو 2023 شكّل نقطة تحول. فقد أنهى قضية معيبة، وأعاد الوضوح القانوني، وأظهر أن المؤسسات قادرة على الدفاع عن العدالة عندما تعمل باستقلالية.
الرسالة واضحة: حماية التكنوقراطيين جزء من حماية الاقتصاد. النفط يوفّر أكثر من 90٪ من دخل الدولة، واستقراره يعتمد على المهنيين الذين يديرون الصادرات والعقود والعلاقات الدولية.
العدالة والشفافية ليست شعارات، بل شروط للثقة. وإذا استوعبت ليبيا دروس هذه القضية، ستقوّي مؤسساتها، وتطمئن المستثمرين، وتمنح المواطنين ثقة بأن البلاد تسير نحو الاستقرار.

