د. حنان راضي تكتب: غنى الروح وفقر الإحساس

في زحام الحياة وتقلباتها، يلوح أمام أعيننا مشهدان متناقضان، كلٌّ منهما يروي حكايةً مختلفة عن الإنسان والمعنى. نجد أناسًا ليس لديهم الكثير ورغم ذلك، أغنياء. غنىً لا يقاس بالأرصدة أو العقارات، بل بشيء أعمق: الرضا، السلام الداخلي، الكرامة، والقناعة. هؤلاء يملكون من الحياة ما لا يُشترى ولا يُورَّث، يملكون أنفسهم.
وفي المقابل، أناسًا اغتنت حياتهم بكل أسباب النعيم الظاهري: ثروات، مناصب، سفر، علاقات، ولكنهم فقراء. فقراء من الداخل، تتآكلهم المقارنة، ويستهلكهم القلق، ويفتقرون إلى المعنى. لا يعرفون لذة الامتنان، ولا دفء البساطة، ولا طمأنينة الرضى. يلهثون خلف المزيد، لأن فراغهم أكبر من أن تملأه مادة.
الفرق بين الفئتين ليس في مقدار ما أخذت أو أعطت الحياة، بل في الكيفية التي ينظر بها كلٌ منهم إلى نفسه والعالم. الإنسان الغني هو من عرف قدر نفسه، وعاش بقيم، وبنى حياةً داخلية ثابتة لا تهزها العواصف. أما الإنسان الفقير فهو من جعل سعادته مرهونة بما يأتي من الخارج، فإن جاء فرح، وإن غاب ضاع وتلاشى.
الحياة لا توزّع العدالة دائمًا، لكنها تمنحنا جميعًا حرية الاختيار في رد الفعل. هناك من تصقله المحن فيزداد بريقًا، وهناك من تفسده النِعَم فيزداد ظُلمة. ولهذا، لا تغتر بمن يظهر سعيدًا ولا ترحم من يبدو بائسًا، فالحقيقة غالبًا ما تسكن الداخل.
في نهاية الأمر، الغنى والفقر حالتان نفسيّتان قبل أن تكونا واقعًا ماديًا. والغني الحقيقي هو من استطاع أن يعيش مرتاح الضمير، مستقيم النفس، صادق النية، وإن كان لا يملك من الدنيا إلا قوت يومه.