جريدة الديار
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار

إعادة تدوير البلاستيك: وهم ”الحل السحري” و حقيقة التحديات الخفية

أحمد عبد الحليم -

تُقدم عملية إعادة تدوير البلاستيك كحل جذري لأزمة التلوث المُتصاعدة، و كمفتاح سحري يمنحنا القُدرة على التعامل مع ملايين الأطنان من المُخلّفات البلاستيكية التي تغرق كوكبنا. لكن، خلف الوعود الوردية والأرقام المُتفائلة، يَكْمُنْ واقع أكثر تعقيدًا و إحباطًا يكشف أن ما يُقدّم لنا غالبًا ما يكون مبنيًا على إفتراضات خاطئة و إحصاءات مُضللة.

لقد تغلغلت فكرة أن البلاستيك قابل لإعادة التدوير إلى أذهاننا بشكل عميق، حتى أصبحت جُزءًا لا يتجزأ من حملات التسويق للشركات الكُبرى. يتم الترويج للمُنتجات البلاستيكية على أنها "صديقة للبيئة" لأنها يُمكن إعادة تدويرها، مما يمنح المُستهلكين شعورًا زائفًا بالمسئولية. و مع ذلك، تُشير الأبحاث و الدراسات العلمية إلى أن قُدرة إعادة تدوير البلاستيك محدودة للغاية، و أن الأرقام المُعلنة غالبًا ما تكون مُبالغًا فيها بشكل مقصود.

لماذا يُروَّج لإعادة التدوير رغم مُحدوديتها؟

يتم الترويج لإعادة التدوير كحل جَذري لأزمة البلاستيك رغم مُحدوديتها لعدة أسباب، أبرزها أن هذا المفهوم يُقدم شعورًا زائفًا بالمسئولية البيئية للشركات و المُستهلكين، مما يُبرر إستمرار إنتاج و إستهلاك البلاستيك بكميات هائلة. فبدلاً من مُعالجة المُشكلة من جُذورها عبر تقليل الإنتاج، تُقدم إعادة التدوير كحل سهل و مُقنع يُتيح للشركات تجنب تحمل "المسئولية المُمتدة للمُنتِج" و يُخفي الواقع الصعب المُتمثل في أن جُزءًا ضَئيلًا فقط من البلاستيك يُعاد تدويره فعليًا، بينما ينتهي المطاف بالكم الأكبر في مدافن المُخلّفات أو يتم حرقه.

تبرير أزمة البلاستيك.

إن الأطراف الأكثر إستفادة من الأرقام المُبالغ فيها حول إعادة تدوير البلاستيك هي الشركات المُنتجة له خاصة ما يُطلق عليها مصانع تحت بير السلم، حيث تستخدم هذه الإحصائيات كأداة تسويقية خضراء (Greenwashing) لإقناع المُستهلكين بمسئوليتها البيئية، مما يُبرر إستمرارها في إنتاج كميات هائلة من المُنتجات البلاستيكية ذات الإستخدام الواحد دون تحمل المسئولية الكاملة عن مُخلّفاتها. هذه الإستراتيجية لا تقلل من الأرباح، بل تزيد من ثقة المُستهلكين و تخفف من الضغط العام على الشركات لإيجاد حلول جَذرية و فَعّالة لأزمة التلوث.

أبرز الدراسات و الأبحاث المُعتمدة.

توجد العديد من الدراسات و الأبحاث العلمية المُعتمدة التي تدعم فكرة أن إعادة تدوير البلاستيك لا تُمثل الحل الشامل لأزمة التلوث، وتُبرز القيود الكبيرة التي تحول دون تحقيق الفوائد المرجوة. غالبًا ما تُشير هذه الأبحاث إلى أن الأرقام المُتفائلة التي تُقدم للعامة هي إحصائيات مُضللة.

القيود التقنية والكيميائية.

إن عملية إعادة تدوير البلاستيك ليست بسيطة أو فَعّالة كما يُعتقد. فبينما يُمكن إعادة تدوير الزجاج أو الألمنيوم مرارًا و تكرارًا دون أن تتدهور جودتها، يفقد البلاستيك جُزءًا من خصائصه في كل مرة يُعاد تدويره. هذه العملية تُؤدي إلى إنخفاض جودته، مما يجعله غير صالح للإستخدام في نفس التطبيقات الأصلية. على سبيل المثال، الزجاجة البلاستيكية غالبًا ما تتحول إلى مادة خام لصناعة ألياف النسيج أو مواد البناء مُنخفضة الجودة، و هو ما يُعرف بـ "التدوير التنازلي" (Downcycling)، و ليس إعادة التدوير الحقيقية لإنتاج مُنتج مُماثل.

إضافة إلى ذلك، هناك أنواع لا حصر لها من البوليمرات البلاستيكية، و لكل منها خصائص كيميائية فريدة. خلط هذه الأنواع معًا يُؤدي إلى مُنتج نهائي ضعيف الجودة و غير قابل للإستخدام في تطبيقات عالية القيمة. هذا التحدي التقني يجعل عملية الفصل و الفرز عملية مُعقدة و مُكلفة للغاية، فضلًا عن أن كثيرًا من المُنتجات البلاستيكية تكون مزيجًا من عِدة أنواع، مما يجعل إعادة تدويرها أمرًا شبه مُستحيل.

خدعة خطيرة.

أصدرت مُنظمتا "بيوند بلاستيكس" و الشبكة الدولية للقضاء على المُلوثات (IPEN) تقريرًا حول "إعادة التدوير الكيميائي: خدعة خطيرة". و وفقاً للتقرير، فإن هذه التقنية التي تعتمدها 11 مُنشأة فقط في الولايات المتحدة، فشلت على مدار عقود في مُعالجة كمية كبيرة من المُخلّفات البلاستيكية، بل إنها تُساهم في التلوث و تنتج مُخلّفات خطيرة و تُطلق مواد سامة تهدد صحة الإنسان والبيئة. يوصي التقرير بوقف إنشاء مصانع جديدة لإعادة التدوير الكيميائي للبلاستيك، و فحص المصانع القائمة للتأكد من سلامة إنبعاثاتها. كما يطالب بإنهاء الدعم الحكومي لهذه المصانع، و إلزام صناعة البتروكيماويات بتحمل مسئولية التلوث. و يشدد على ضرورة عدم إحتساب إعادة التدوير الكيميائي ضمن أهداف التدوير الرسمية، مُؤكداً أن الحل الحقيقي هو في تقليل الإنتاج و إعادة الاستخدام.

الأرقام المُضللة: كيف يتم تضليلنا؟

تستند الأرقام المُتفائلة حول إعادة تدوير البلاستيك غالبًا إلى إحصاءات مُنحرفة. فمثلًا، بعض الأرقام تشمل البلاستيك الذي يتم تجميعه لغرض إعادة التدوير، و ليس البلاستيك الذي يتم إعادة تدويره بالفعل. هذا الفارق كبير جدًا. فجزء كبير من البلاستيك المجموع يُرفض في محطات الفرز لأسباب تتعلق بالتلوث أو عدم الجدوى الإقتصادية.

إحدى أهم النقاط التي تُؤكدها الأبحاث هي التمييز بين كمية البلاستيك التي يتم جمعها لإعادة التدوير، و الكمية التي يتم إعادة تدويرها بالفعل. تُشير دراسة بارزة نشرتها مجلة "Science Advances" في عام 2017 إلى أن 9% فقط من إجمالي البلاستيك الذي تم إنتاجه على الإطلاق قد أُعيد تدويره بالفعل، بينما يتم حرق جُزء كبير منه أو دفنه في مكبات المُخلّفات. هذا الرقم يكشف الفجوة الهائلة بين الوعود و الواقع.

بينما أعدت مُنظمة "غرينبيس" الشرق الأوسط و شمال أفريقيا، و هي مُنظمة بيئية تعمل على حماية البيئة و التصدي لآثار تغير المناخ، تقاريرًا تثبت فيه أن إعادة تدوير البلاستيك الكيميائي و الميكانيكي لم تحقق نجاحًا كبيرًا. ففي تقرير لها، أكدت المُنظمة أن الأرقام التي تروج لها الشركات لا تعكس الحقيقة، و أن جُزءًا كبيرًا من البلاستيك الذي يتم شحنه للتدوير ينتهي به المطاف في مكبات المُخلّفات أو يتم حرقه، خاصةً في الدول النامية.

التكلفة الإقتصادية و الآثار البيئية.

تُظهر الأبحاث أن إعادة تدوير البلاستيك غالبًا ما تكون أكثر تكلفة من إنتاج البلاستيك الجديد (البِكر)، و ذلك بسبب الحاجة إلى عمليات فرز مُعقدة، و غسل، و مُعالجة. هذا التحدي الإقتصادي يجعل العديد من المصانع غير قادرة على التنافس، مما يحد من حجم و نطاق عمليات إعادة التدوير.

بالإضافة إلى ذلك، كشفت دراسات حديثة أن عملية إعادة تدوير البلاستيك نفسها يُمكن أن تكون مصدرًا للتلوث. فخلال مراحل الغسيل و الفرم، قد تتسرب الجسيمات البلاستيكية الدقيقة إلى المياه، مما يُؤدي إلى تلوث جديد للبيئة و يُهدد الحياة البحرية.

الحلول البديلة.

إن إعادة التدوير ليست الحل النهائي، بل هي جُزء من حل أوسع و أشمل يجب أن يشمل بالدرجة الأولى تقليل الإستهلاك و إعادة الإستخدام. المُشكلة الحقيقية تَكْمُنْ في الإعتماد المُفرط على البلاستيك القابل للتصرف، و في تقديم إعادة التدوير كحل يبرر إستمرار هذا النمط الإستهلاكي المُدمر.

أين تذهب الكمية الأكبر من البلاستيك؟

تذهب الكمية الأكبر من البلاستيك الذي لا يُعاد تدويره، و التي تُقدر بـ 91% من إجمالي البلاستيك المُنتج عالميًا، إلى مكبّات المُخلّفات حيث يُدفن، أو تُحرق في محارق خاصة، أو تُشحن إلى الدول النامية لتنتهي في مدافن غير صحيّة أو تُلقى في البيئة، مما يتسبب في تلوث التربة و المياه و الهواء، و ينقل المُشكلة من مكان إلى آخر بدلاً من حلها جَذريًا.

دور الإقتصاد الدائري في حل الأزمة.

يلعب الإقتصاد الدائري دورًا حاسمًا في حل أزمة التلوث البلاستيكي عن طريق تحويل النظام الإقتصادي الحالي الذي يعتمد على مبدأ "الإستخراج، التصنيع، الإستهلاك، و التخلص" إلى نظام يرُكز على التقليل، و إعادة الإستخدام، و إعادة التدوير. بدلاً من إنتاج مُنتجات ذات عمر قصير، يُشجع الإقتصاد الدائري على تصميم مُنتجات قابلة للإصلاح، و التحويل، و إعادة الإستخدام مراراً و تكراراً، مما يُقلل بشكل جَذري من الحاجة إلى المواد البلاستيكية الجديدة و يُقلل من المُخلّفات. و بذلك، فهو يهدف إلى إبقاء الموارد قيد الإستخدام لأطول فترة مُمكنة، مما يُقلل من الضغط على الموارد الطبيعية و الحَدّ من التلوث.

المسئولية المُمتدة للمنتِج.

لمُواجهة التحدي المُتزايد للتلوث البلاستيكي، لا بد من تبني إستراتيجيات أكثر فَعّالية تتجاوز المُمارسات التقليدية. من الضروري الإلتزام بالمواصفات القياسية للبلاستيك المُعاد تدويره، مع التركيز على تطبيق مفهوم "التدوير ذو الدائرة المُغلقة" (Closed-Loop Recycling) الذي يضمن إعادة إستخدام المُدخلات البلاستيكية لإنتاج نفس المُنتج الأصلي، و التخلص الآمن من المُخرجات المُلوثة.

كما يجب على الشركات أن تتبنى فكرة "المسئولية المُمتدة للمُنتِج" (Extended Producer Responsibility). هذا النظام يهدف إلى إلزام الشركات المُصنّعة بتحمل مسئولية مُنتجاتها البلاستيكية حتى نهاية دورة حياتها، بما في ذلك جمعها و إعادة تدويرها و التخلص الآمن من مُخلّفاتها. يُمكن تطبيق هذا النظام عبر آليات مُبتكرة مثل إضافة رسوم بسيطة على سعر المُنتج النهائي، و التي تُخصص لتمويل عمليات الجمع و التدوير. هذه الرسوم لا تُمثل عِبئًا كبيرًا على المُستهلك، لكنها تضمن أن يتم التعامل مع المُخلّفات البلاستيكية بشكل مسئول و آمن، مما يضع الصحة العامة و البيئة في صدارة الأولويات بدلاً من الأرباح قصيرة المدى.

أكبر تحدٍ يواجه تطبيق نظام "المسئولية المُمتدة للمُنتِج" (EPR) هو المُقاومة الإقتصادية و السياسية من قِبل الشركات المُنتِجة، و التي تخشى من أن يُؤدي تحملها تكلفة جمع و إعادة تدوير مُنتجاتها إلى زيادة أسعارها و فقدان قُدرتها التنافسية. هذا التحدي يتفاقم بسبب ضعف الأُطر التشريعية و الرقابية في العديد من الدول، مما يسمح للشركات بالتهرب من مسئولياتها، و يجعل تطبيق النظام أمرًا مُعقدًا و يصعب فرضه بشكل فَعّال على أرض الواقع.

دور المُستهلكين في حل الأزمة.

يُمكن للمُستهلكين المُساهمة بفَعّالية في حل أزمة البلاستيك عبر تبني مبدأي "التقليل" و"إعادة الإستخدام". بدلاً من التركيز على إعادة التدوير وحدها، ينبغي عليهم تقليل إستهلاكهم للمُنتجات البلاستيكية ذات الإستخدام الواحد مثل الأكياس، و الأكواب، و القش، و البحث عن بدائل مُستدامة. كما يجب عليهم إعادة إستخدام المُنتجات لأطول فترة مُمكنة، كاستخدام زجاجات المياه القابلة للتعبئة، و حقائب التسوق المصنوعة من القماش، و علب الطعام الزجاجية، مما يُقلل بشكل جَذري من حجم المُخلّفات البلاستيكية المُنتجة من المصدر.

تُؤكد هذه الأبحاث و الدراسات العلمية أن التركيز المُفرط على إعادة التدوير قد يكون مُجرد إلهاء عن الحلول الأكثر جَذرية و فَعّالية. بدلًا من التركيز على ما يُمكننا فعله بالبلاستيك بعد إستخدامه، يجب أن نسأل أنفسنا: هل نحتاج حقًا إلى هذا البلاستيك في المقام الأول؟

إن الحل يَكْمُنْ في إبتكار بدائل مُستدامة، و تشجيع الإقتصاد الدائري الذي يُركز على إعادة إستخدام المُنتجات لأطول فترة مُمكنة، و تغيير عاداتنا الإستهلاكية بشكل جَذري. حينها فقط، يُمكننا أن نخطو خطوة حقيقية نحو عالم خالٍ من التلوث البلاستيكي.

تحقيق : أحمد عبد الحليم