جريدة الديار
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار

مدحت الشيخ يكتب: قامات مصرية في طي النسيان

الديار -

القدوة تعد أحد أهم آليات بناء الأجيال، فهي البوصلة التي تحدد الاتجاه، والنبراس الذي ينير الطريق. وقد أنجبت مصر قامات خالدة في العلم والفكر والأدب والفن، صنعت نهضة أجيال، لكنها غابت عن الأذهان أو توارت خلف ضوضاء الحاضر، حتى باتت في طي النسيان.

فالشيخ محمد متولي الشعراوي، إمام الدعاة، لم يكن مجرد عالم أزهري يفسر القرآن، بل كان مدرسة فكرية وروحية متكاملة. جمع في أسلوبه بين عمق التفسير وبساطة الطرح، فجعل الناس يشعرون أن القرآن يخاطب حياتهم اليومية، فالتف حوله الكبير والصغير. كان لبرنامجه خواطر إيمانية أثر بالغ في تكوين الوعي الديني الوسطي المعتدل، ليصبح رمزًا للخطاب الديني القريب من الناس.

أما الدكتور مصطفى محمود، الطبيب والفيلسوف والمفكر، فقد خاض رحلة فكرية طويلة بحثًا عن الحقيقة. جمع بين أدوات العلم وقلق الفلسفة وإلهام الإيمان، فأخرج أكثر من مئة كتاب ما بين الرواية والبحث والفكر. ترك بصمة خاصة ببرنامجه الشهير العلم والإيمان، الذي لم يكن مجرد برنامج تلفزيوني، بل جسرًا بين المختبر والمجتمع، بين العقل والروح، بين المعرفة واليقين. أثره ظل حاضرًا في عقول من تابعوه، فغرس فيهم حب التساؤل والتفكير.

ويأتي نجيب محفوظ، الأديب العالمي وابن الحارة المصرية، الذي التقط تفاصيل المجتمع المصري في حواريه ومقاهيه وأحلام ناسه البسطاء، ليصوغ منها أدبًا خالدًا بلغ العالمية. بفوزه بجائزة نوبل في الأدب، صار محفوظ شاهدًا على أن مصر ليست فقط مهد الحضارة القديمة، بل منبع الأدب الإنساني الحديث. تأثيره لم يتوقف عند حدود مصر، بل امتد ليُعرّف العالم بالإنسان المصري في أعمق صوره.

ولا يمكن أن نغفل أحمد زويل، ابن دمنهور البار، وعالم الكيمياء الفذ الذي اقتحم مجال الفيمتوثانية ليحصد جائزة نوبل، فيفتح للبشرية أبوابًا جديدة لفهم حركة الجزيئات والتفاعلات. أثره لم يكن علميًا فقط، بل كان رمزًا للإرادة المصرية القادرة على المنافسة عالميًا. رفع اسم مصر عاليًا وأعطى الأمل لشبابها أن لا حدود للأحلام إذا اقترنت بالعلم والعمل.

وكذلك طه حسين، عميد الأدب العربي، الذي هزم العمى بالعلم، وحول فقدان البصر إلى نور باهر أضاء دروب الفكر العربي. لم يكن مجرد ناقد أو أديب، بل مشروع نهضة كاملة، دعا إلى مجانية التعليم، وفتح أبواب الجامعة لكل أبناء الوطن. تأثيره لم يكن في الأدب وحده، بل في الوعي الاجتماعي والفكري للأمة كلها.

وأخيرًا أم كلثوم، كوكب الشرق، التي تجاوز صوتها حدود الطرب إلى أن صار صوت وطن وأمة. غنّت لمصر وللعروبة، وصارت حنجرتها مرآة لآمال الناس وأحزانهم، حتى أن حفلاتها كانت توحد الشعوب العربية على لحن واحد وصوت واحد. تأثيرها لم يكن فنيًا فحسب، بل ثقافيًا وسياسيًا أيضًا، إذ حملت صورة مصر إلى كل أذن في العالم العربي.

لكن المؤلم أكثر أن زمننا الحالي يفيض بأصوات تختفي وراءها القيم الحقيقية، فنسمع مطربي المهرجانات يملأون الساحة بصخب فارغ، ويزعم البعض أنهم يمثلون الثقافة والفن، بينما هي مجرد صيحات صوتية بلا مضمون، تُلهي الناس عن قيمة الفكر والإبداع الحقيقي. هذا العبث يجعل من الذاكرة الجماعية فريسة للسطحية، ويعكس أزمة في تقدير القدوة، فالأجيال الجديدة تتوه بين ما هو حق وما هو وهم، بين تاريخ عظيم وصخب عابر.

إن هذه القامات لم تصنع مجدها الشخصي فقط، بل صنعت ذاكرة وطن وبصمة أمة. وما يؤلم حقًا أن تُترك في طي النسيان، بينما تتقدم أمم أخرى بقدواتها وتضعهم في صدارة الوعي الجمعي.

ويبقى السؤال: متى نعيد لهؤلاء الأضواء التي يستحقونها؟ ومتى ندرك أن الأوطان التي تنسى رموزها، إنما تفقد جزءًا من نفسها؟