بين الحياة والموت... حين يتحول الغش الدوائي إلى جريمة في حق الإنسانية

من الطبيعي أن يسمع الإنسان عن غش في سلعة أو تلاعب في علامة تجارية لمنتج أو قطعة ملابس، لكن أن يمتد الغش إلى الأدوية التي تعالج المرضى وتعيد إليهم الحياة، فذلك تجاوز لكل حدود الإنسانية.
فالغش في الدواء لا يضر بالمظهر أو المال، بل يقتل الأمل في الشفاء، ويضع حياة إنسان بريء على حافة الموت.
مشهد من الذاكرة... “فيه سم قاتل”
يتذكر الكثيرون مشهدًا خالدًا من فيلم “بين الحياة والموت”، حين اكتشف الطبيب أن خطأً في تركيبة دواء قد يودي بحياة إنسان، فترك عيادته وذهب بنفسه إلى حكمدار العاصمة ليبلغ عن الخطأ، لتتحول القضية إلى سباق مع الزمن لإنقاذ المريض “أحمد إبراهيم”.
لم تكن هناك هواتف محمولة أو شبكات تواصل، فاستُخدم الراديو لبث نداء عاجل يقول:
"الدواء فيه سم قاتل... إلى أحمد إبراهيم".
كان ذلك المشهد تجسيدًا لضمير الطبيب والمسؤولية الأخلاقية، وهي الصورة التي نفتقدها اليوم في بعض من يتاجرون بالدواء ويعبثون بأرواح الناس من أجل المال.
تحذير عاجل من هيئة الدواء
وفي مشهد واقعي لا يقل خطورة عن ذلك المشهد السينمائي، أصدرت هيئة الدواء المصرية منشورًا رسميًا رقم (74 لسنة 2025) تحذر فيه من تداول عبوات مغشوشة من أحد المضادات الحيوية الشهيرة المنتشرة بالأسواق.
وأكدت الهيئة أن هذه العبوات غير صالحة للاستخدام وتشكل خطرًا مباشرًا على صحة المواطنين، موضحة أن التشغيلة رقم "2410102" من دواء Clavimox 642.9mg/5ml powder for Oral Suspension مقلدة وليست من إنتاج الشركة الأصلية.
وأوضحت أن هذه العبوات لا تخضع لمواصفات الجودة والأمان، وتشكل تهديدًا صريحًا للصحة العامة.
دواء لإنقاذ المرضى يتحول إلى خطر قاتل
يُعد كلافيموكس (Clavimox) من المضادات الحيوية واسعة المدى، ويُستخدم في علاج التهابات الجهاز التنفسي، والأذن، والمسالك البولية، والجلد، والأسنان، والعظام.
ويُعطى للأطفال بجرعات دقيقة تحت إشراف الطبيب.
ومن هنا تأتي خطورة التلاعب به، لأن استخدام عبوة مغشوشة قد يؤدي إلى فشل العلاج، أو مضاعفات خطيرة، أو حتى الوفاة.
إجراءات عاجلة لحماية المواطن
هيئة الدواء لم تقف مكتوفة الأيدي، فأعلنت وقف تداول التشغيلة المغشوشة فورًا، وضبط وتحريز جميع العبوات المقلدة بالتعاون مع الأجهزة الرقابية، كما شددت على الصيدليات بعدم بيعها أو تداولها، والإبلاغ الفوري عن أي كميات مشبوهة عبر الخط الساخن (15301).
وأكدت استمرار حملات التفتيش المكثفة لضبط أي منتجات دوائية مغشوشة أو مقلدة، مشددة أنها لن تتهاون مع أي جهة تتورط في هذه الجريمة، سواء كانت شركة أو صيدلية أو منفذ بيع غير مرخص.
العقوبة... جناية تمس حياة الإنسان
الغش في الدواء ليس مجرد مخالفة تجارية، بل هو جناية مكتملة الأركان وفقًا لقانون العقوبات المصري.
فمن يروج أو يبيع أو يصنع دواءً مغشوشًا، يُعاقب بالحبس المؤبد أو الإعدام إذا تسبب في وفاة، وبالسجن المشدد والغرامة إذا عرض حياة إنسان للخطر، طبقًا للمادة (86) من قانون العقوبات، والمادة (81) من قانون تنظيم المهن الصيدلية رقم 127 لسنة 1955 وتعديلاته.
لكن رغم وضوح النصوص القانونية، فإن حجم الجريمة اليوم يفرض تغليظ العقوبات وتشديد الرقابة الميدانية على مصانع ومستودعات الأدوية، لأن من يعبث بتركيبة دواء، يعبث بحياة إنسان قد يكون طفلًا ينتظر الشفاء.
بين ضمير الطبيب وجشع التاجر
في فيلم “بين الحياة والموت”، لم ينتظر الطبيب أن يكتشف أحد خطأه، بل سارع بإنقاذ المريض. أما في واقعنا، فهناك من يصنع الدواء المغشوش عن علم، ويبيعه بثقة، ويدّعي البراءة.
الفرق بين المشهدين هو الضمير، فحين يغيب الضمير تتحول المهنة الإنسانية إلى تجارة بالموت.
رسالة إلى المشرّع والمجتمع
إن حماية المواطن من الغش الدوائي مسؤولية جماعية تبدأ من المواطن الذي يتحقق من مصدر الدواء، وتمر بالصيدلي الذي يرفض الشراء من مصادر مجهولة، وتنتهي عند المشرّع الذي يجب أن يجعل الغش في الدواء جريمة لا تسقط بالتقادم.
فالأدوية ليست مجرد بضائع... إنها أمل المرضى في الحياة. ومن يغشها لا يستحق سوى أن يُحاسب بين الحياة والموت.

