جريدة الديار
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار

مدحت الشيخ يكتب: مصر — من غزة إلى السودان.. حمْلُ الأمانة في وجه العواصف

-

ما يجري في السودان هذه الأيام — من تفكّك للنسيج الوطني على أيدي ميليشيات ومرتزقة، ومن تصارعٍ على السلطة والمكاسب بلا اعتبارٍ لمصير الأمة أو لمواطنيها — ليس أمراً يمكن لمصر تجاهُله. فالسودان جارٌ استراتيجي، وشريك تاريخي، ونافذة مهمة لأمن القارة. انفلات الأوضاع هناك يعني موجات نزوح، تهديدات على الحدود، وتأثيرات اقتصادية وسياسية تتردد أصداؤها داخل مصر أولاً وأخيراً.

مصر في هذا المشهد لا تتصنّع دور الحَكماء من بعيد. هي التي فتحت وساطاتٍ، وقدمت مساعداتٍ إنسانية تحت أقسى ضغوط، وضحت بأكثر من قرارٍ سهل — لأن الحفاظ على استقرار السودان أمرٌ لا يحتمل الانتظار أو الحسابات الضيقة. الموقف المصري هنا يقوم على مبدأ بسيط لكن عميق: الاستقرار القومي يبدأ بجار مستقر، والإنسانية لا تتجزأ حسب خطوط الخرائط.

اقتصادياً، تكبّدنا كٌلاً من تبعات الضغط — من استقبال موجاتٍ لّاجئين، إلى استثمار جهود في التخفيف من آثار الصراع على التجارة والطاقة. سياسياً، كانت القاهرة تعمل على خطوط اتصال متعددة: مع الأطراف السودانية، ومع القوى الإقليمية والدولية التي يمكنها أن تؤثر إيجاباً أو سلباً. دبلوماسياً، اختارت مصر الحِكمة التي تُعرّفها التجربة: لا تسفيه للانهيار، ولا تلهاث وراء انتصارٍ مرحلي يدفع ثمنه المواطن.

أما إنسانياً، فالقصة أبعد وأقسى: صورٌ لعيونٍ لا تفرق بين لونٍ أو قبيلةً أو موقفٍ سياسي؛ أطفالٌ يستسلمون للجوع؛ أسرٌ تُشرّد؛ وبنى تحتية تنهار. هذا كلّه يذكّرنا بأن العدوى الأسوأ ليست انتشار السلاح أو الفوضى فقط — بل فقدان الأمل والقدرة على إعادة البناء. وهنا تتجلى مسؤولية القاهرة: العمل على حفظ ما يمكن حفظه، وإفساح الطريق أمام آليات دولية وإقليمية لوقف نزيف الدم وعلاج الجراح.

لكن لنتحدث بوضوح: الحلول الأمنية وحدها لا تكفي. لا بد من استراتيجية شاملة تبدأ بحماية المدنيين فوراً، وتنتهي بخارطة طريق سياسية حقيقية تمكّن الدولة من بسط سلطانها القانوني على كامل التراب السوداني. لا يجب أن تكون خارطة الطريق وراثةً لأطرافٍ خارجية تحمِلُ أجنداتٍ ضيقة؛ بل نداءً وطنياً، يقوده السودانيون بدعم إقليمي عقلاني. ومصر، لأسباب تاريخية وإنسانية واستراتيجية، يجب أن تكون جزءاً من هذا المجهود، لا بالهيمنة، بل بالشراكة وبالضمان.

من غزة إلى السودان، يتكشف أمامنا درسٌ واحد لا يمكن تجاهُله: الأمن القومي لا يقاس بقدرة الجيوش وحدها، بل بقدرة الشعوب على الحفاظ على مؤسساتها، وبقدرة جيرانها على تقديم دعمٍ يعيدها إلى مسارها. ومصر، بخبرتها وموقعها، مطالبة بأن تستثمر أدواتها: دبلوماسية مكوكية، مساعدات إنسانية مستهدفة، ضغوط سياسية ذكية، ودعماً لجهود المصالحة الوطنية السودانية التي تُبنى على مصالح الشعب أولاً، لا على مكاسب الفصائل.

أخيراً، على أصحاب الشأن — محليين وإقليميين ودوليين — أن يعيوا أن ما يُفقد اليوم في السودان أو غزة لا يُعوَّض غداً بسهولة. موازين الثقة تتآكل بسرعة؛ وإعادة بنائها أصعب بكثير من حماية مؤقتة أو تدخلٍ خاطف. لذلك، أقترح ما يلي بصورة عملية ومباشرة: تعزيز قنوات الإغاثة الإنسانية عبر منظمات محايدة، تشكيل لجنة إقليمية بمشاركة مصر لاحتواء النزاع وإطلاق حوار سوداني–سوداني حقيقي، فرض آليات مراقبة لمنع تحويل الحرب إلى عملية نهب منظّم، ودعم عاجل للبنية التحتية الحيوية التي تنهار فتصنع أزمات إنسانية طويلة الأمد.

في النهاية، لا أرى في مواقف مصر من غزة إلى السودان مجرّد مواقف سياسة أو مصالح بل منظومة قِيَمٍ — قيم تحافظ على إنسانية الأمة، وتدرك أن السلام والاستقرار هما استثمار طويل الأمد. ولأن الطريق صعب، فلا بد أن يُقاس العزم بالأفعال، وأن .تُترجم الكلمات إلى شراكات عملية، وإلى حمايةٍ حقيقةٍ للإنسان الذي يدفع ثمناً باهظاً لصراعات الكبار.