جريدة الديار
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار

الريادة المصرية.. الطاقة المتجددة تتحول من دعامة مناخية إلى ركيزة للسيادة الاقتصادية

الديار- أحمد عبد الحليم -

يُشكل قطاع الطاقة العالمي أكبر مصدر لإنبعاثات غازات الدفيئة، حيث يُمثل حرق الوقود الأحفوري لتوليد الكهرباء و الحرارة ما يقرب من 75% من الإنبعاثات العالمية و 90% من إنبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة. بناءً عليه، لم يُعدّ التحول إلى مصادر الطاقة المُتجددة من الشمس و الرياح و الطاقة المائية خياراً بيئياً، بل تحول إلى ضرورة إقتصادية و إستراتيجية و بيئية و صحية وطنية حاسمة لتحقيق الأهداف المناخية.

و في هذا الإطار، رسخت مصر مكانتها بقوة إقليمية رائدة في سباق التحول نحو الطاقة الجديدة و المتجددة، حيث لم تقتصر جهودها على الإلتزامات البيئية، بل تحولت إلى إنجازات نوعية وضعتها في صدارة الجهود العالمية لمُكافحة التغيرات المناخية. ويأتي هذا الزخم مدعومًا بتبني مشاريع طاقة ضخمة تلعب دورًا محوريًا، لا في دعم الإستراتيجيات الوطنية لخفض الإنبعاثات الكربونية فحسب، بل في تعزيز دور القاهرة كشريك إقليمي موثوق به في دعم الإستدامة المناخية الدولية.

طاقة تُؤمِّن المستقبل

يؤكد الخبراء على أن الطاقة المتجددة ليست مُجرد حل بيئي، بل هي أمن إقتصادي و مستقبل مستدام. فلابد من الإلتزام بتسريع وتيرة المشاريع لتصل إلى 42% في مزيج الطاقة بحلول عام 2035، بما يدعم الهدف بخفض الإنبعاثات.

مصر تتجاوز 7.75 جيجاوات

تواصل مصر مساعيها القوية نحو أهدافها الطموحة للطاقة النظيفة، إذ تجاوزت قُدرتها المركبة من المصادر المُتجددة (باستثناء الكهرومائية) حاجز الـ 7.75 جيجاوات في عام 2024. و تشكل المشاريع العملاقة، مثل مجمع بنبان بأسوان للطاقة الشمسية (بإجمالي قُدرة 1.465 جيجاوات) ومحطات جبل الزيت للرياح، خير دليل على هذا الزخم الوطني.

مركز طاقة إقليمي

و على الصعيد الإقليمي و الدولي، يُعزز إلتزام مصر بتحويل خططها الطموحة إلى واقع مُنفَّذ مشاركتها الفَعّالة في مبادرة "تيراميدا" (طاقة المتوسط النظيفة)، و التي تستهدف إنتاج 1 تيراوات من الطاقة النظيفة في منطقة المتوسط (بما فيها مصر) بحلول عام 2030، و ذلك في إطار الهدف العالمي لإنتاج 11 تيراوات، حيث تهدف مصر عبر هذه المُبادرة إلى ترسيخ دورها كمركز إقليمي للطاقة الخضراء؛ حيث تدعم "تيراميدا" جهودها لبلوغ هدفها في الطاقة المُتجددة بحلول 2035، كما تعزز موقعها لتأمين التمويل و جذب إستثمارات القطاع الخاص المضمونة. هذا الدور يضمن لمصر مكانة محورية في تأمين إمدادات الطاقة النظيفة لأوروبا من خلال مشاريع الربط العملاقة.

أهداف التحول الطاقي

تؤكد الهيئات العلمية أن تحقيق هدف إبقاء الإحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية يتطلب خفض الإنبعاثات بمقدار النصف تقريباً بحلول عام 2030، و الوصول إلى صافي إنبعاثات صفري بحلول عام 2050. في هذا الصدد، تلجأ بعض الدول إلى تبني حلول طاقة مستقرة وخالية من الكربون مثل الطاقة النووية المدنية السلمية لضمان طاقة أساسية موثوقة إلى جانب المتجددة.

بينما تشير دراسات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA)، إلى أن تبني خطة طموحة لتحول نظام الطاقة سيَمْكُنْ من تفادي نحو 70% من إنبعاثات ثاني أكسيد الكربون المُرتبطة بقطاع الطاقة العالمي بحلول عام 2050. و فيما يتعلق بالأثر الصحي لخفض التلوث، فقد أظهرت الأبحاث أن التوسع في توليد الطاقة من مصادر الرياح و الشمس بدلاً من الوقود الأحفوري يُساهم بشكل مباشر في خفض تكاليف الرعاية الصحية، عبر تجنب آلاف الوفيات المُبكرة و حالات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي و القلب و الربو و أمراض السرطان و المناعة و التشوهات الخلقية للأطفال سنوياً.

تمويل التحول العادل

تَكْمُنْ الأهمية القصوى لدمج الطاقة المتجددة في الإستراتيجيات الوطنية في أبعاد متعددة، أهمها تعزيز الأمن الطاقوي و السيادة الوطنية، و تقليل الإعتماد على واردات الوقود الأحفوري. بينما تُعدّ كفاءة الطاقة و إدارة الطلب ركيزة أساسية، كما تُظهر التحليلات الإقليمية إنخفاضًا مستمرًا في متوسط تكلفة الكهرباء المولدة من الطاقة الشمسية (LCOE).

على الرغم من الإنجازات الملموسة، يظل إستكمال هذا التحول الطاقي العملاق يتطلب مُعالجة شاملة للعبء التمويلي و الإستثماري الضخم الذي تتحمله الدولة و القطاع الخاص، و هو ما يستدعي تحليلًا دقيقًا للميزانية المطلوبة مُقابل العائد الإقتصادي طويل الأجل. كما يجب تعميق مفهوم "التحول العادل" من خلال توضيح الآثار المباشرة للمشاريع العملاقة مثل بنبان على تنمية المجتمعات المحلية المحيطة بها، عبر خلق فرص العمل المستدامة و تحسين الخدمات، لضمان أن وصول فوائد الطاقة النظيفة تصل لكافة الشرائح.

آليات الإنجاز المصرية

لم يأتِ هذا الإنجاز الضخم بمحض الصدفة، بل كان نتيجة مباشرة لتبني مصر لآليات تنظيمية إستراتيجية أطلقت عليها الآليات التمكينية المصرية. كان مفتاح جذب الإستثمارات الأجنبية لمشاريع عملاقة مثل مجمع بنبان (الذي إستقطب أكثر من 2 مليار دولار) هو إطلاق نظام تعريفة التغذية (FiT)، الذي وفر ضمانات طويلة الأجل بشراء الكهرباء بأسعار ثابتة و مُجزية. كما دعمت هذه الثقة بتقديم الأطلس الشمسي و الريحي المُوثق، كأداة شفافة أثبتت للممولين و القطاع الخاص عالمياً أن المواقع المصرية تتمتع بأفضل كفاءة لتوليد الطاقة.

ويأتي هذا الزخم في سياق منافسة إقليمية قوية، حيث تسعى دول مثل الإمارات و المغرب لتوسيع قدراتها في الطاقة المتجددة و الهيدروجين الأخضر، مما يرفع من أهمية وسرعة الإنجازات المصرية في قطاع الطاقة.

التحديات (التخزين، التنظيم، والإستدامة).

على الرغم من الإمكانيات الهائلة، يواجه التحول الطاقي تحديات كبرى تتطلب مُعالجة فورية و آليات مُبتكرة. و يتمثل أبرزها في إدارة الشبكات؛ حيث يتطلب تطوير البنية التحتية و إنشاء وتحديث ملايين الكيلومترات من خطوط النقل، و هذا يستدعي توسيع الشراكة بين القطاعين العام و الخاص (PPP)، مع توجيه الإستثمارات بقوة نحو تطوير الشبكات الذكية (Smart Grids).

بينما في حلول الطاقة المتقطعة و التخزين العملاق و البعد الجيوسياسي؛ يتم التغلب على تحدي عدم التوافر المستمر عبر الإستثمار في مشاريع الهيدروجين الأخضر و بناء محطات التخزين بالضخ. و في الإنجاز الوطني، وضعت مصر خطة وطنية للهيدروجين الأخضر باستثمارات ضخمة. كما تتجسد الإستراتيجية في مشاريع الربط العملاقة مثل الربط مع المملكة العربية السعودية و مشروع الربط البحري مع أوروبا عبر اليونان و قبرص، و الذي يستهدف نقل قدرة تصل إلى 3 جيجاوات من الكهرباء النظيفة، مما يضع مصر على خريطة التصدير كمورد رئيسي للكهرباء الخضراء للقارة الأوروبية.

أما عن الإستدامة الدائرية (إدارة المُخلّفات)، يتطلب التحول الناجح أيضًا التخطيط الإستباقي لضمان الإستدامة الدائرية للقطاع. يجب على الحكومات وضع تشريعات و آليات لإعادة تدوير الألواح الشمسية و شفرات الرياح عند إنتهاء عمرها الإفتراضي، للإستفادة من المعادن و المواد الخام القيمة، و لكن بطرق آمنة على البيئة و الصحة.

الطاقة النظيفة لمنع التلوث

تعتبر الشبكة الدولية للقضاء على المُلوثات (IPEN) ، التحول نحو الطاقة النظيفة إستراتيجية حاسمة لمنع المُلوثات، إذ يُمثل الوقود الأحفوري المصدر الأكبر للمُلوثات السامة التي تضر بالصحة العامة. هذا التوجه يتفق مع الجهود المصرية للتوسع في الطاقة المُتجددة. و تشدد الشبكة على ضرورة توظيف هذا التحول لـخلق وظائف خضراء و تحقيق نمو إقتصادي شامل، مع التأكيد على الأهمية القصوى لـلإدارة الآمنة للمُخلّفات الخطرة الناتجة عن تكنولوجيا الطاقة النظيفة نفسها، و ذلك لضمان عدم تسرب المعادن الثقيلة و منع المُلوثات بشكل كامل.

توطين صناعة إستعادة المعادن الثمينة

دعت الدكتورة سامية جلال سعد، أستاذة المعهد العالي للصحة العامة و البيئية بالإسكندرية و خبيرة الأمم المتحدة الإستشارية في الإدارة البيئية، إلى توطين صناعة نظيفة و مُتطورة لإستعادة المعادن الثمينة و الليثيوم من البطاريات المُستهلكة، مُشددة على أن التوسع في نُظم الطاقة المُتجددة يتطلب إدماج تقنيات تخزين حديثة مثل بطاريات الليثيوم، مما يضمن إستدامة الإمداد بالطاقة مُنخفضة الإنبعاثات.

و حذرت الدكتورة سامية، من الخطورة البالغة للتخلص غير الآمن من هذه البطاريات، مُؤكدة أنها لا تُمثل خطرًا بيئيًا فحسب، بل تُهدر ثروة إقتصادية كامنة، مُشيرة إلى أن الهاجس الأبرز يتمثل في خطر الحرائق و الإنفجارات، حيث يُفسر إلقاء بطاريات الليثيوم في القمامة العادية إرتباط مئات الحرائق سنويًا بمرافق المُخلّفات، إذ تشير إحصائيات دولية إلى إرتباط أكثر من 250 حريقًا سنويًا بهذه البطاريات نتيجة الإشتعال السريع. و لا يقتصر الخطر على ذلك، بل يمتد ليشمل تسرب المواد السامة كحمض الهيدروفلوريك و المعادن الثقيلة، التي تُهدد التربة و المياه. و قد كشفت الدراسات العلمية وجود خطر مُتزايد لتسرب هذه المواد و المعادن الثقيلة (بما في ذلك الزئبق، و الرصاص، و الكوبالت) إلى المياه الجوفية قرب المكبات التي تضم البطاريات المُستهلكة، مما يُعرّض العاملين في قطاع إدارة المُخلّفات و من حولهم للخطر المُباشر بسبب التسمم و الحروق.

و أكدت خبيرة الأمم المتحدة الإستشارية في الإدارة البيئية، على ضرورة التوجه نحو الإقتصاد الدوار عبر البدء الجاد في توطين صناعة الإستعادة و التصنيع، لضمان عدم تصدير البطاريات المُستهلكة و منع تسربها إلى الورش الصغيرة غير القادرة على تطبيق معايير الإنتاج الأنظف. هذا التوطين لا يضمن فقط التخلص الآمن من المواد السامة و حماية البيئة و الصحة العامة، بل يُساهم في خفض تكلفة نُظم الطاقة المُتجددة، و يخلق فرص عمل جديدة و مُستدامة في إدارة الموارد، مُشددة على أن إكتمال هذا التحول بنجاح يتطلب إصدار تشريعات داعمة، و تعزيز الشراكة مع الجامعات لدعم البحث و التطوير، مع ضمان تحول عادل للمجتمعات و العمال عبر برامج التدريب و إعادة التأهيل المهني.

النداء الوطني

من هنا، تتضح الرؤية الكاملة؛ إن التحول نحو الطاقة المُتجددة في مصر يتجاوز كونه مُجرد إلتزام بيئي، ليصبح رهانًا إستراتيجيًا و قرارًا سياديًا يهدف إلى تأمين المسار الإقتصادي للدولة. هذا المسعى يضمن لمصر سيادة طاقوية مُستدامة و مستقبلًا إقتصاديًا أكثر أمانًا وجودة حياة أفضل للأجيال القادمة، عبر تثبيت دورها كجسر محوري للطاقة النظيفة بين قارات العالم و التحقيق الشامل للإستفادة من الموارد بطريقة مُستدامة و محققة لأكبر عائد إقتصادي للمنصرف في تحقيق مُتطلبات الدولة من الطاقة أحد الأعمدة الأساسية للتنمية الإقتصادية الشاملة.