رأس المال الطبيعي: كيف يمكن لمصر استثمار تنوعها البيولوجي في الاقتصاد

في ظل الآثار المُتصاعدة للتغيرات المناخية عالميًا، يُقدم التنوع البيولوجي في مصر نفسه كـ "خط الدفاع الطبيعي الأول و الأكثر فَعّالية من حيث التكلفة". إن النظم البيئية الحيوية للبلاد ليست مُجرد كنوز بيئية، بل هي صمام الأمان الفعلي؛ من غابات المانجروف التي تمتص الكربون و تحمي الشواطئ، إلى الأراضي الرطبة في المحميات التي تُساهم في التخفيف المناخي، وصولاً إلى الشعاب المرجانية التي تشكل حواجز أمواج طبيعية. هذه الأصول الإستراتيجية، التي تغطي حوالي 15% من مساحة مصر تحت مظلة المحميات الطبيعية، تتجاوز وظيفتها البيئية لتصبح مصدر لا يُقدّر بثمن لـ "رأس المال الطبيعي". وبالتالي، فإن دمج الحماية البيئية بنماذج الإستثمار المُستدام يحقق هدفاً مزدوجاً: فهو لا يُساهم فقط في التخفيف و التَكَيّف مع تحديات المناخ، بل يدعم أيضاً الإقتصاد الوطني مباشرة عبر توليد فرص عمل خضراء و مُستدامة.
تقدير رأس المال الطبيعي
إن أهمية التنوع البيولوجي لا تقاس فقط بالإيرادات المُباشرة للسياحة، بل بالقيمة الهائلة لخدمات النظام البيئي المجانية التي توفرها. تشير التقديرات العلمية و الدراسات الإقتصادية البيئية إلى أن النظم البيئية السليمة مثل الشعاب المرجانية و غابات المانجروف توفر مئات الملايين من الدولارات سنويًا في صورة حماية للبنية التحتية الساحلية، ترشيح للمياه، و مصائد طبيعية للثروة السمكية. و إن تجنب تكاليف بناء حواجز بحرية إصطناعية – و هي مُهمة تقوم بها أشجار المانجروف بفَعّالية أكبر – يُمثل توفيراً ضخماً على الدولة، مما يُؤكد أن كل دولار يُستثمر في حماية المحميات يعود بأضعافه على الإقتصاد الوطني كقيمة مُضافة غير منظورة.
دور التنوع البيولوجي في مُواجهة تغير المناخ
أكدت الدراسات العلمية أن النظم البيئية السليمة هي خط الدفاع الأول ضد آثار تغير المناخ في مصر، حيث تعمل على آليتين رئيسيتين: التخفيف و التَكَيّف. تُعدّ النظم البيئية البحرية و الساحلية، كالشعاب المرجانية و غابات المانجروف في البحر الأحمر، كمصارف حيوية للكربون و تُساهم في جهود التخفيف من الإحتباس الحراري. أما على صعيد التَكَيّف، تعمل المحميات الساحلية كحواجز طبيعية تُقلل من مخاطر الكوارث و تآكل الشواطئ، كما هو الحال في محمية رأس محمد، مما يحمي البنية التحتية من إرتفاع منسوب سطح البحر و الظواهر الجوية المُتطرفة.
المحميات: إستثمار و توليد للوظائف
تحولت المحميات الطبيعية في مصر، مثل رأس محمد و نبق و وادي الجمال، من مراكز للحماية فقط إلى مراكز للإستثمار المُستدام و مصادر دخل قومي و محلي. و قد أظهرت التقارير الأخيرة التي صدرت عن وزارة البيئة زيادة في إجمالي إيرادات المحميات على المستوى الوطني بنسبة تجاوزت 40% سنوياً، مما يُبرز دورها كعنصر رئيسي في دعم الإقتصاد. هذا التحول يقوم على تنشيط السياحة البيئية من خلال تطوير البنية التحتية والنزل البيئية، مما يجذب إستثمارات عالمية و يزيد جاذبية الوجهات. كما يتحقق الدعم المباشر للإقتصاد المحلي عبر توفير فرص عمل مُستدامة للمجتمعات المُحيطة، و خاصة المجتمعات البدوية، الذين يعملون كمرشدين بيئيين و مُقدمي خدمات، و يتم دعمهم في تطوير الحرف اليدوية التراثية.
شراكة إدارة المحميات
لتأمين التحول الإقتصادي للمحميات، عززت الحكومة المصرية الإطار التنظيمي لدعم الشراكة مع القطاع الخاص و المجتمع المدني. فقد تم تعديل التشريعات المُتعلقة بالمحميات الطبيعية للسماح للقطاع الخاص بإدارة و تشغيل بعض الخدمات داخل نطاقها وفقاً لمعايير صارمة تضمن الحفاظ على البيئة. يهدف هذا التوجه إلى تطبيق مفهوم الإدارة التشاركية بشكل مؤسسي، حيث يُسمح بالإستثمار البيئي المسئول الذي يُولد عوائد مالية، شريطة أن تخصص نسبة من هذه العوائد لتمويل عمليات الحماية و الرصد البيئي المُباشرة، مما يضمن إستدامة الإدارة و يُعزز الشفافية في حوكمة الأصول الطبيعية.
و لقد تعزز هذا التوجه الإستثماري بفضل الإطار القانوني الداعم، و تحديداً عبر التعديلات التي سمح بها قانون المحميات الطبيعية رقم 102 لسنة 1983 و القوانين اللاحقة له (مثل القانون 4 لسنة 1994) التي وسعت من صلاحيات مُمارسة الأنشطة ذات المُقابل المادي ضمن ضوابط بيئية صارمة، مما مكن المحميات من تحقيق إيرادات بلغت نحو 600 مليون جنيه مصري لأول مرة في عام 2024 وفقاً لوزارة البيئة، و هو ما يُدعم توجه الإعتماد على التمويل الذاتي لتطوير هذه الأصول الإستراتيجية بدلاً من موازنة الدولة.
مثال حي للإدارة التشاركية
على سبيل المثال، شهدت محمية نبق في جنوب سيناء تطبيقًا رائدًا لمفهوم الإدارة التشاركية. فبعد تعديل التشريعات، دخلت الدولة في شراكة مع القطاع الخاص لإدارة و تطوير الخدمات السياحية داخل نطاق بيئي مُحدد. يتركز هذا التعاون على تطوير النزل البيئية و مراكز الغوص وفقًا لأعلى المعايير الخضراء، مع شرط أساسي يتمثل في تخصيص نسبة واضحة و مُحددة من الإيرادات المالية لتمويل عمليات الحماية و الرصد البيئي المباشرة لأشجار المانجروف و الشعاب المرجانية في المحمية. لا يقتصر الأثر الإيجابي على التمويل، بل يمتد ليشمل إتاحة فرص عمل مباشرة و مُستدامة لأفراد المجتمع البدوي المحلي في مجال الإرشاد البيئي و الخدمات اللوجستية، مُحوّلاً الإستثمار إلى مُحرك مزدوج للحماية و التنمية.
تحديات تمويل المحميات
على الرغم من النجاحات الإقتصادية الواضحة، لا تزال المحميات الطبيعية تواجه تحديات حقيقية تُهدد إستدامتها. و يُعد التمويل طويل الأجل أحد أبرز هذه التحديات، فإيرادات السياحة البيئية، و إن ارتفعت، لا تغطي بالكامل التكلفة الباهظة لإدارة مناطق شاسعة و مراقبتها علمياً. بالإضافة إلى ذلك، تواجه هذه المناطق ضغوطاً من التوسع العمراني غير المخطط له في مناطق الحرم، و تهديدات الصيد الجائر في بعض المناطق البحرية و البرية. و يؤكد الخبراء أن إستمرار النمو الإقتصادي للمحميات يتطلب آليات تمويل مُبتكرة و مُستدامة، مثل تفعيل كامل لآليات المُقايضة بالديون لأغراض الحماية البيئية أو إنشاء صناديق سيادية خضراء مُخصصة بشكل دائم لجهود الصون و الترميم.
خطر التوسع غير المنظم و الصيد الجائر
إلى جانب تحديات التمويل، تبرز التحديات الناجمة عن الضغوط البشرية كتهديد مباشر لأصول المحميات. ففي المناطق المحيطة ببعض المحميات الصحراوية، يُشكل التوسع العمراني العشوائي في مناطق الحرم و الظهير الجغرافي خطرًا على مسارات هجرة الحيوانات البرية و سلامة الأنواع النباتية المُستوطنة، مما يُؤدي إلى تجزئة الموائل. و في البيئة البحرية، يظل الصيد الجائر بالوسائل غير القانونية في بعض الجُزر و المناطق الساحلية يُهدد الثروة السمكية و سلامة الشعاب المرجانية التي تعتبر حاضنات طبيعية لها. يتطلب التصدي لهذه التعديات تضافرًا بين سلطة إنفاذ القانون البيئي و حملات توعية مُستمرة تستهدف تعريف المجتمعات المحلية بالعواقب الإقتصادية و البيئية لتلك المُمارسات.
إشراك المجتمعات المحلية في التَكَيّف المناخي
تُعد المجتمعات المحلية شريكاً أساسياً في جهود التَكَيّف مع التغيرات المناخية، خاصة في المناطق الهشة. يتم تنفيذ مشاريع الحلول القائمة على الطبيعة التي تربط الحماية بالمعيشة المُستدامة، مثل إشراك المجتمعات في إعادة تأهيل أشجار المانجروف بالبحر الأحمر لحماية السواحل. و في الوقت نفسه، تركز المشروعات على تنمية سُبل العيش المُستدامة للمجتمعات (في الفيوم و سيناء)، عبر تدريبهم على الإرشاد السياحي و تطوير الحرف اليدوية، مما يحولهم إلى حماة للموارد البيولوجية و يرفع من مرونة المنطقة الإقتصادية و البيئية في مُواجهة مخاطر المناخ.
صوت من الميدان و الخبراء
لضمان نجاح التَكَيّف المناخي، دُمجت الخبرة العلمية بالمعرفة المحلية. و في هذا الصدد، أكد الأستاذ الدكتور عاطف محمد كامل، الخبير الدولي في التنوع البيولوجي و المحميات الطبيعية لدى اليونسكو، و رئيس قسم الحياة البرية و حدائق الحيوان بكلية الطب البيطري جامعة عين شمس، و المستشار العلمي لحديقة الحيوان بالجيزة، و خبير التغير المناخ بوزارة البيئة، أن المحميات الطبيعية و التنوع البيولوجي في مصر تمثل حاليًا ركائز إستراتيجية لمُواجهة التغيرات المناخية و مُحركًا للسياحة البيئية المُستدامة، حيث تلعب محميات الأراضي الرطبة دورًا حيويًا في التخفيف المناخي عبر إمتصاص ثاني أكسيد الكربون، ما يجعلها "أمنًا قوميًا مناخيًا"، بينما تدعم المحميات البحرية الإقتصاد من خلال سياحة الغوص، مع ضمان حمايتها بقانون صارم. و لتعزيز هذا الدور الإستراتيجي، دعا إلى تفعيل دور المجتمع المدني كشريك في الرصد و التوعية، و ضرورة ضخ إستثمارات في البحث العلمي لتطوير سلالات مُقاومة للمناخ، بالإضافة إلى أهمية التعاون الدولي لبناء قدرات الكوادر المحلية و ضمان إستدامة هذه الركائز.
حماية الأنواع و آليات التوازن البيئي
و أشار كامل، إلى أن مصر تولي أهمية قصوى لحماية التنوع البيولوجي كضمانة لإستدامة الحياة الإقتصادية و البيئية، حيث تتجاوز جهودها حماية الأنواع الفردية لتشمل الحفاظ على السلسلة الغذائية و التوازن البيئي، و يظهر ذلك في مُعالجة تحدي المشاريع الكُبرى، مثل طواحين الهواء في جبل الزيت، من خلال حلول هندسية مبتكرة كآلية "القفل عند الحاجة" لحماية الطيور المُهاجرة. مُؤكدًا أن التنوع الحيواني يضمن القضاء على الآفات و حماية المحاصيل، مما يجعل الحفاظ على التنوع هو الأساس لوقاية الحياة من الإختلال. و لتحقيق ذلك، يجب على المجتمع المدني تكثيف حملات التوعية، و ضرورة دمج مفاهيم المرونة البيئية و التنوع البيولوجي في التخطيط الوطني (العمراني و الزراعي)، بالإضافة إلى المزيد من تفعيل برامج السياحة البيئية المسئولة لتحقيق التوازن بين الحماية و التنمية المُستدامة.
المجتمع المدني.. شريك في معركة المناخ
و أضاف الخبير الدولي في التنوع البيولوجي، أن المجتمع المدني يُعدّ فاعلاً محورياً لا غنى عنه و شريكاً مُكملاً لجهود الدولة في حماية التنوع البيولوجي ضد التغيرات المناخية، حيث يضطلع بدور حيوي و فَعّال يرتكز على عدة محاور أساسية. يتمثل هذا الدور في التوعية البيئية و بناء القُدرات، و رصد الإنتهاكات البيئية، و المشاركة المُباشرة في جهود التخفيف و التَكَيّف المناخي، خاصة من خلال تنفيذ الحلول القائمة على الطبيعة (NbS) التي تستهدف إستعادة النظم البيئية و مُكافحة التصحر. إن قُدرة المجتمع المدني على تعبئة الأفراد و العمل الميداني و الضغط من أجل التغيير السياساتي تجعله الضمانة لصمود المجتمعات المحلية في مُواجهة التحديات المناخية.
و أوضح الدكتور أيمن حمادة، الخبير البيئي و رئيس الإدارة المركزية للتنوع البيولوجي سابقاً، الدور الحيوي للطبيعة، قائلاً: "الشعاب المرجانية و غابات المانجروف ليست مُجرد كائنات حية، بل هي بنية تحتية طبيعية تفوق في كفاءتها أي حائط صد خرساني يُمكن أن نبنيه لحماية سواحلنا. و إشراك الأهالي هو الضمان الوحيد لنجاح هذه الحلول."
و أكدت الأستاذة سماح محمد فريد، مسئولة التوعية البيئية بمحميات جنوب سيناء، هذا التحول الجذري من الميدان، مُشيرة إلى أن العمل المحلي يرتكز حالياً على حماية و رصد الأنواع. و تضيف في شهادتها: "نحن اليوم نحمي بيئتنا ليس خوفاً من القانون، بل لأننا أصبحنا ندرك أنها مصدر رزقنا الدائم و ضمان بقاء أرضنا لأجيالنا القادمة." هذه الرؤية تُبرز بوضوح تحول المجتمعات من مُجرد مُستهلكة للموارد إلى شريك و حامٍ أساسي للثروات الطبيعية.
مُقترحات لتعزيز الوعي و المشاركة المجتمعية
إن إستدامة التنوع البيولوجي و الفوائد الإقتصادية تتطلب مشاركة مجتمعية واسعة و وعياً عميقاً بقيمة "رأس المال الطبيعي". و يُقترح تحقيق ذلك عبر إطلاق المبادرات الإعلامية المُتخصصة مثل حملة "كنز مصر الطبيعي"، و إنشاء برنامج وطني لـ "سفراء المحميات" يستهدف الشباب لتدريبهم في الإرشاد البيئي. كما يجب دمج الثقافة البيئية في التعليم المحلي و ربطها بالتراث و الحرف، بالإضافة إلى تأسيس منصات للتمويل الأخضر المحلي تتيح المُساهمة في أرصدة الكربون و تمويل المشاريع الصغيرة المُستدامة، مما يُحفز الإستثمار الأخضر.
ضمان المرونة للمستقبل الأخضر
إن التحديات التي تواجه المحميات المصرية، من التمويل إلى الضغوط البشرية، تُؤكد أن الحماية ليست مُهمة تامة بل عملية مُستمرة تتطلب تضافر الجهود. فبينما تثبت الحلول القائمة على الطبيعة فَعّاليتها كخط دفاع أول ضد آثار التغير المناخي، يبقى الإستثمار في الوعي و المشاركة المجتمعية هو الضمانة الحقيقية لإستدامة هذه الأصول. إن تحويل التنوع البيولوجي إلى مصدر دخل مُستدام للمجتمعات المحلية، كما أظهرت تجارب رأس محمد و نبق، هو المفتاح لمستقبل تزداد فيه مرونة مصر البيئية و الإقتصادية.
إن التنوع البيولوجي في مصر هو ليس مُجرد كنز للحياة البرية، بل هو صمام أمان إقتصادي يجب حمايته و إستثماره الآن لضمان بقاء الأجيال القادمة.

