مدحت الشيخ يكتب: مهنة السياسة وفن التشريع

لم تعد السياسة مجرد حضور على المنابر أو خطابات تُلقى في المناسبات، بل أصبحت مهنة لها قواعد، وفنًا يتطلب خبرة ومعرفة وانضباطًا. فالسياسي الحقيقي ليس من يرفع الشعارات أو يتصدر المشهد لحظات، بل من يمتلك القدرة على قراءة الواقع، وفهم احتياجات الناس، وصياغة تشريعات قادرة على تحسين حياتهم بصورة ملموسة ومحسوبة.
إن فن التشريع ليس عملية ميكانيكية تعتمد على نسخ قوانين سابقة أو ترجمة مقترحات جاهزة، بل هو علم قائم على فهم متعمق لاقتصاد الدولة، وبنية المجتمع، وحقوق المواطن، ومسار التنمية. التشريع الناجح هو الذي يوازن بين متطلبات الحاضر ومتغيرات المستقبل، ويصنع بيئة مستقرة تشجع على العمل والإنتاج وتحافظ في الوقت نفسه على الحقوق والحريات.
السياسي الذي يمارس التشريع دون أدوات معرفية يشبه طبيبًا يكتب وصفة دون تشخيص؛ قانون بلا رؤية قد يتحول إلى عبء، أو باب يُستغل، أو عائق يقف أمام الإصلاح. لذلك لا يمكن فصل مهنة السياسة عن الإعداد الفكري، ولا يمكن تصور برلمان فاعل دون أعضاء قادرين على الفهم قبل القرار، وعلى النقاش قبل التصويت، وعلى السؤال قبل التوقيع.
ولعل أحد أبرز التحديات التي تواجه العمل التشريعي اليوم هو الصدام بين سرعة الواقع وتعقيد القضايا المطروحة. فالتكنولوجيا تتغير، والمجتمع يتطور، والاقتصاد يمر بتقلبات عالمية حادة، وهو ما يجعل التشريع عملية تحتاج إلى رصد مستمر، وتحليل عميق، ومراجعة جريئة دون خوف من التغيير. القانون الجيد ليس هو القانون الأبقى، بل هو القانون الأكثر قدرة على حماية المجتمع وتنظيم علاقاته في كل مرحلة.
كما أن مهنة السياسة لم تعد ترفًا أو وجاهة اجتماعية، بل أصبحت مسؤولية ثقيلة تتطلب حضورًا فكريًا وأخلاقيًا. السياسي الذي لا يرى معاناة الناس لا يمكنه التشريع لهم، والذي يتخذ القرار من مكتبه دون أن يلمس نبض الشارع لن يدرك أثر ما يوقع عليه. أما السياسي الذي يعرف أن كل بند في كل مادة ينعكس مباشرة على حياة أسرة أو مستقبل شاب، فهو وحده القادر على ممارسة "فن التشريع" بمعناه الرفيع.
إن السياسة في جوهرها خدمة، والتشريع في حقيقته بناء. ومن يجمع بينهما بوعي وقدرة وإخلاص، هو الذي يصنع فارقًا حقيقيًا في مسار الدولة، ويحفظ للمجتمع استقراره، ويفتح الطريق أمام نهضة لا تقوم على المصادفة، بل على رؤية واضحة وقوانين راسخة.

