جريدة الديار
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار

الذكاء الإصطناعي : صراع التوازن بين التطور التكنولوجي و تحديات إستهلاك الكهرباء و إنبعاثات الكاربون

أحمد عبد الحليم -

خلف الوميض الساحر لشاشات الذكاء الاصطناعي و قدرته الفائقة على محاكاة العقل البشري، يختبئ واقع مادي مُعقد يُعيد رسم علاقة التكنولوجيا بالطبيعة. فبينما تَعِد الخوارزميات بجعل الكوكب أكثر ذكاءً و استدامة عبر قدرات تنبؤية هائلة، تُبرز في المقابل أرقام صادمة لثمن هذا التطور؛ تتمثل في إستهلاك الكهرباء و أطنان من انبعاثات الكربون، و ملايين اللترات من المياه التي تلتهمها مراكز البيانات لتبريد أدمغتها الرقمية.

هذا التباين الصارخ يضع العالم اليوم في قلب مُواجهة مصيرية، حيث يتشابك طموح الابتكار مع قيود الموارد الطبيعية، و تتصادم وعود الشركات التقنية بالحياد المناخي مع صرخات المجتمعات التي تواجه ندرة الموارد. إن هذا الصراع الوجودي بين جموح الخوارزمية و محدودية الطبيعة هو ما توثقه أرقام معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) و تحذيرات وكالة الطاقة الدولية (IEA)، مما يفتح الباب أمام تساؤلات مُلّحة: هل تكنولوجيا المستقبل هي طوق النجاة للمناخ، أم أنها المحرك الجديد لاستنزاف الكوكب في حقبة الاستعمار الرقمي؟

ضريبة الذكاء البيئية.

أكدت الأستاذة الدكتورة سامية جلال سعد، أستاذة المعهد العالي للصحة العامة و البيئية بالإسكندرية و خبيرة الأمم المتحدة الإستشارية في الإدارة البيئية، أن الذكاء الإصطناعي التوليدي تكنولوجيا ذات وجهين متناقضين؛ فهي من جهة قد تفرض ضريبة بيئية ثقيلة عبر إستهلاك 1% من كهرباء العالم، و تستنزف المياه لأغراض التبريد مما يهدد منطقة الشرق الأوسط التي تعاني أصلاً من ندرة مائية. مُشيرة إلى أن تدريب نموذج واحد قد يطلق إنبعاثات تعادل ما تنتجه 5 سيارات طوال عمرها الإفتراضي، و هي أرقام تتضاعف مع عمليات إعادة التدريب المستمرة و تصنيع الأجهزة عالية الأداء.

درع مناخي رقمي.

كما أشارت الدكتورة سامية إلى أن هذه التقنية يمكن أن تتحول إلى درع مناخي إذا إستُخدمت بمسئولية؛ وذلك عندما توفر قدرات فائقة في التنبؤ بالظواهر الجوية المتطرفة (كالفيضانات و موجات الحر)، مما يعزز إستعداد المستشفيات و المنظومات الصحية في مصر لمواجهة الأزمات. و تضيف خبيرة الأمم المتحدة، أن الذكاء الإصطناعي يمتلك إمكانات هائلة لخفض الإنبعاثات العالمية بنسبة تصل إلى 10% عبر تحسين كفاءة الشبكات الذكية، و سلاسل التوريد، و إدارة الموارد الصحية، مما يجعله حليفاً إستراتيجياً لإستدامة الكوكب بشرط ضمان شفافية مصادر طاقته و تصميمه.

وحوش الطاقة: فاتورة الكهرباء الباهظة.

أشارت تقارير معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في مدينة كامبريدج بولاية ماساتشوستس في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن تدريب نموذج لغوي واحد مثل GPT-3 يستهلك حوالي 1287 ميجاوات/ساعة من الكهرباء، و هي كمية ضخمة تكفي لتشغيل 120 منزلاً أمريكياً لمدة عام كامل، كما تبرز مفارقة الإستخدام اليومي في تأكيد وكالة الطاقة الدولية (IEA) أن الطلب الواحد عبر الذكاء الإصطناعي يستهلك حوالي 2.9 وات/ساعة، مقارنة بـ 0.3 وات/ساعة فقط للبحث التقليدي، مما يعني أن دمج هذه التقنيات يرفع إستهلاك الطاقة إلى 10 أضعاف لكل عملية بحث.

عطش الخوارزميات وصراع "أوروغواي".

قد تتجاوز المُعضلة البيئية حدود إستهلاك الكهرباء لتصل إلى إستنزاف حاد للموارد المائية، حيث تفرض مراكز البيانات ضرورة التبريد المستمر لمنع صهر الرقائق الإلكترونية، و هو ما جعل الذكاء الإصطناعي يعطش حرفياً؛ إذ كشفت دراسة جامعة كورنيل (2023) التي تقع في مدينة إثاكا (نيويورك) في الولايات المتحدة الأمريكية، أن كل محادثة بسيطة (من 10 إلى 50 سؤالاً) تستهلك ما متوسطه 500 مللتر من الماء. و تتجلى خطورة هذا الإستنزاف في أزمات العدالة المناخية، كما حدث في "أوروغواي" أمريكا الجنوبية، التي واجهت أسوأ موجة جفاف منذ 74 عاماً، بينما كانت التقارير تكشف عن إستهلاك مركز بيانات "جوجل" لملايين اللترات يومياً، مما فجر إحتجاجات شعبية رفعت شعار: "ليست سحابة، إنها مياهنا"؛ و هو ما يُسلط الضوء على خطر بناء هذه المراكز في مناطق قاحلة (مثل تشيلي أو أريزونا)، حيث تمنح الشركات الأولوية لتبريد الخوارزميات على حساب إحتياجات الزراعة و حق السكان المحليين في المياه.

"حق الرد": التوازن بين الضرر والحل.

في مقابل هذه الإنتقادات، تؤكد شركات التقنية الكبرى أنها ليست غافلة عن الأثر البيئي لنشاطاتها؛ حيث أعلنت شركتا "جوجل" و"مايكروسوفت" عن طموحهما بأن تصبحا "إيجابيتين مائياً" بحلول عام 2030 عبر إعادة كميات من المياه للبيئة تفوق إستهلاكهما، فيما يشدد الدفاع الرسمي لشركات مثل "OpenAI" و"Google" على أن الذكاء الإصطناعي يمثل أداة محورية لحل أزمة المناخ، و هو ما يدعمه تقرير مجموعة بوسطن الإستشارية (BCG) بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي يشير إلى قدرة هذه التقنية على خفض الإنبعاثات العالمية بنسبة تتراوح بين 5% و10% من خلال تحسين كفاءة شبكات الكهرباء و إبتكار مواد متطورة لتخزين الطاقة.

الشفافية الرقمية.

بين التعهدات و الواقع: معضلة الشفافية الرقمية رغم التباين الواضح بين تحذيرات العلماء و وعود الشركات بالإستدامة، تظل الشفافية هي الحلقة المفقودة في هذا الصراع؛ إذ ترفض معظم شركات التقنية الكبرى الإفصاح عن البيانات الدقيقة لإستهلاك الطاقة و المياه لكل نموذج على حدة، مُعتبرة إياها أسراراً تجارية. هذا الغموض المعلوماتي يضع صُنّاع القرار أمام تحدٍ حقيقي في صياغة تشريعات بيئية صارمة، و يجعل من الصعب التحقق من مدى جدوى الوعود التقنية في مواجهة النسبة الدقيقة على الأثر المادي الملموس الذي تتركه الخوارزميات على كوكب الأرض.

شهادات الخبراء: كسر "أسطورة السحابة".

تؤكد كيت كروفورد و هي باحثة في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس (UCLA)، و أستاذة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) بالولايات المتحدة الأمريكية، أن الذكاء الإصطناعي ليس سحابة نقية كما يتخيل البعض، بل هو "صناعة إستخراجية" بامتياز تعتمد على مناجم الليثيوم و كابلات المحيطات و إستهلاك هائل للطاقة.

جدلية القياس في ميزان الدستور المناخي.

يرى الدكتور هشام عيسى، عضو مجلس إدارة شركة ديكاربون للإستشارات البيئية و التنمية المستدامة و مدير تغير المناخ بالشركة، و المُنسق الوطني الأسبق للإتفاقية الإطارية في الامم المتحدة، أن إتهام الذكاء الإصطناعي بزيادة الإنبعاثات هو حكم مبكر قد يفتقر لمنهجية قياس موحدة، مُشدداً على ضرورة العودة إلى بروتوكولات الهيئة الحكومية الدولية (IPCC) كمرجعية و دستور وحيد لحساب الكربون. و يطرح عيسى فلسفة المقارنة كبديل للإدانة المُطلقة؛ فبينما تستهلك الخوارزميات طاقة السيرفرات، يستهلك البديل التقليدي وقود المواصلات و كهرباء القاعات و أطنان الورق و الأحبار، مما يجعل الفيصل النهائي هو قياس أي المسارين أقل ضرراً على الكوكب، بدلاً من تجريم التقنية لمجرد وجود بصمة كربونية يشاركها فيها كل نشاط بشري، حتى الطاقة المتجددة ذاتها.

ما وراء الكربون.

يبدي الدكتور هشام، تحفظاً تربوياً يتعلق بتأثير الذكاء الإصطناعي على القدرات البشرية، مُحذراً من تراجع مهارات البحث و التحليل لدى الأجيال القادمة، تماماً كما أثرت الآلة الحاسبة على مهارات الحساب الذهني. و يختتم رؤيته بالتأكيد على أن التطور التقني لا يمكن إيقافه، بل يجب تطويعه بحكمة كونه سلاحاً ذا حدين، حيث يَكْمُنْ الرهان الحقيقي في دقة المعادلات التي توازن بين تكلفة الحداثة الرقمية و تكلفة البدائل التقليدية الموروثة، لضمان مستقبل يتسم بالكفاءة الرقمية و الوعي البيئي في آن واحد، مع تحديد نسبة الإنبعاثات إن وجدت بنسبة ملحوظة.

في حين تُكمل الدكتورة ساشا لوتشيوني، مسئولة إستراتيجية المناخ في منصة Hugging Face العالمية برابطة مع معهد Mila للأبحاث في مونتريال بكندا، هذا المشهد بمقارنة ساخرة؛ فالباحثة التي تُعد رائدة مجال 'الذكاء الاصطناعي الأخضر، تصف إستخدام نماذج لغوية ضخمة للإجابة عن أسئلة بسيطة بأنه بمثابة 'إستخدام طائرة هليكوبتر للذهاب إلى البقالة المجاورة'، في إشارة تقنية صريحة إلى حجم الهدر الهائل في الطاقة و الموارد الذي لا يتناسب طردياً مع بساطة النتيجة المرجوة.

"المقبرة الرقمية" و المفارقة الإقتصادية

قد يمتد الأثر إلى المُخلفات الإلكترونية؛ حيث تُستبدل الرقائق كل 2-5 سنوات لمواكبة التطور، مما يُساهم في أطنان من المُخلفات السامة التي لا يُعاد تدوير سوى 22% منها عالمياً وفقاً للأمم المتحدة. المفارقة الإقتصادية: الشركات تخوض "سباق تسلح رقمي" حيث الربح اللحظي و سرعة الإنتشار يتقدمان على الإستدامة، مما يدفعها لشراء "شهادات كربونية" رمزية بدلاً من تحمل التكلفة الحقيقية لحماية الكوكب.

السياق المحلي: الطموح العربي وتحدي الندرة.

تقود السعودية و الإمارات طموحات كُبرى لبناء بنية تحتية للذكاء الإصطناعي (مثل رؤية 2030). و مع ذلك، يبرز تساؤل مصيري: كيف ستتم المُوازنة بين هذا الطموح و بين ندرة المياه في المنطقة؟ نجاح التجربة العربية مرهون بابتكار نماذج تبريد جافة و الإعتماد الكلي على الطاقة النووية و النظيفة، لضمان ألا يتحول التقدم الرقمي إلى عبء إضافي على الموارد المحدودة.

الذكاء الاصطناعي "الأخضر".

تظهر الآن حركة تقنية تركز على النماذج اللغوية الصغيرة (SLMs) التي تستهلك طاقة تعادل 1% فقط من النماذج الضخمة، مع مطالبات بفرض "ملصق كربون" يوضح التكلفة البيئية لكل محادثة لتمكين المستهلك الواعي.

ميثاق الإستهلاك الرشيد: كيف تُقلل بصمتك الرقمية؟

لتحويل السلوك الرقمي إلى نهج صديق للبيئة، يجدر بنا تبني مبدأ «الاستهلاك الرشيد»؛ الذي يبدأ بالتمييز بين المهام؛ بحيث تكتفي بمحركات البحث التقليدية للمعلومات البسيطة، و تدخر قدرات الذكاء الاصطناعي للمهمات المُعقدة. كما يتطلب الأمر تجنباً صارماً للهدر البصري المتمثل في توليد الصور و الفيديوهات بدافع التسلية (إذ يستهلك توليد صورة واحدة طاقة تعادل شحن هاتفك الذكي بالكامل). وصولاً إلى ممارسة التنظيف الرقمي المستمر عبر حذف المحادثات و البيانات غير الضرورية؛ لتقليل العبء الطاقي على خوادم التخزين السحابية.

بين الرهان الرقمي و المصير المناخي.

يقف العالم اليوم عند مُفترق طرق تقني؛ حيث لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد واجهة برمجية تسكن شاشاتنا، بل كائناً مادياً يضرب بجذوره في أعماق التربة و مجاري الأنهار. إن المعركة الحقيقية التي تلوح في الأفق ليست بين خوارزمية و أخرى لتقديم إجابة أسرع، بل هي صراع صامت بين "سرعة الحوسبة" و"بطء الطبيعة" في تعويض ما يُسلب منها من موارد.

بينما تعد الوعود التقنية بمدن ذكية و كوكب خاوٍ من الانبعاثات بفضل الحلول البرمجية، تظل الأرقام الموثقة صرخة تحذير من أننا قد نكون بصدد استبدال أزمة مناخية بأخرى تقنية، حيث تصبح "البيانات" هي النفط الجديد، و"المياه" هي وقود التبريد المنفي من حسابات الربح و الخسارة. إن المسئولية الآن تتجاوز وعود الشركات بالحياد المادي، لتستقر في يد الحكومات المطالبة بتمزيق حجاب الغموض عن "الشفافية الرقمية"، و في وعي المستخدم الذي يملك خيار ترشيد نقراته.

قد ينجح الذكاء الاصطناعي في محاكاة العقل البشري، لكنه حتماً لن ينجح في توليد لتر ماء واحد أو استعادة غابة احترقت لتغذية مراكز بياناته. إننا أمام لحظة فارقة تتطلب تطويع هذه التقنية لتكون خادمة للأرض لا عبئاً عليها، لضمان ألا يتحول "الذكاء" الذي ابتكرناه إلى أداة تسرع وتيرة استنزاف كوكبنا الجريح.

تحقيق : أحمد عبد الحليم