جريدة الديار
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار

ذباب الجندي الأسود في مصر يثير جدلا بيولوجيا وغذائيا واسعا

الديار- أحمد عبد الحليم -

في الوقت الذي تتسابق فيه الحلول التكنولوجية لإبتكار مصادر بروتينية غير تقليدية لمواجهة أزمة الأعلاف العالمية، يبرز ملف إستزراع "ذبابة الجندي الأسود" في مصر كقضية جدلية تجمع بين طموحات الاستدامة ومخاوف الأمن القومي الحيوي.

بينما يرى المؤيدون في هذه اليرقات "ثورة" لتدوير المخلفات وإنتاج أعلاف منخفضة التكلفة، تضع تقارير الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية (EFSA) ودراسات علمية دولية علامات استفهام حول قدرة هذه الحشرات على تراكم السموم والمعادن الثقيلة ونقلها للسلسلة الغذائية.

ومع تقاطع الموقف الرسمي الذي يرهن شرعنة هذه المشروعات بضوابط رقابية صارمة والتحذيرات العلمية والشرعية، يظل السؤال: هل تنجح الرقابة في ضبط "إيقاع اليرقات" وحماية مائدة المصريين قبل أن تتحول المبادرات التجريبية إلى واقع يفرض نفسه على المستهلك؟

معركة السموم الصامدة

حذرت دراسات عالمية في Frontiers in Microbiology وتقارير EFSA من تحول اليرقات إلى "خزان حيوي" لمسببات الأمراض؛ فبينما تلتهم المخلفات، قد تنجو بكتيريا مثل السالمونيلا داخل أمعائها، والأخطر هو قدرتها الفائقة على "التراكم الحيوي" للمعادن الثقيلة والمُلوثات العضوية الثابتة.

هذه السموم ثابتة حرارياً، مما يعني أن المعالجات التقليدية عند 70 درجة مئوية قد لا تقهرها، وقد تنتقل مباشرة إلى لحوم الدواجن والمجترات ثم الإنسان.

تناول التقرير الصادر عن EFSA في أكتوبر 2015 تقييمًا شاملاً للمخاطر البيولوجية والكيميائية والبيئية، إضافة لمسببات الحساسية المرتبطة بالحشرات المستزرعة. وأوضح التقرير أن مستوى المخاطر الميكروبيولوجية في الحشرات المرباة على أعلاف مسموح بها يماثل نظيره في مصادر البروتين الحيواني الأخرى، بينما يعتمد خطر وجود "البريونات" على نوع الركيزة المستخدمة، مشددًا على أن طرق الإنتاج والمعالجة ومرحلة الحصاد عوامل حاسمة في تحديد مستويات التلوث.

وأشار التقرير إلى فجوات معرفية كبيرة ونقص في البيانات المنهجية حول استهلاك البشر والحيوانات للحشرات، مؤكداً ضرورة إجراء مزيد من البحوث لتقييم المخاطر بدقة، خاصة عند استخدام ركائز غير تقليدية مثل مخلفات المطابخ أو الروث، مع التأكيد على أن المخاطر البيئية المتوقعة تظل مشابهة للأنظمة التقليدية.

درع الأمن الحيوي

أكد ياسر عبد الله، الرئيس التنفيذي لجهاز تنظيم إدارة المخلفات بوزارة البيئة، أن الوزارة تتعامل مع ملف إستزراع "ذبابة الجندي الأسود" باعتباره قضية أمن قومي تحمل الوجهين؛ فإما مصلحة وطنية كبرى أو ضرر بيئي جسيم.

مشروعات الذبابة لا تزال في طور المبادرات التجريبية، ولن تتحول إلى مشروع قومي إلا بعد استيفاء ضوابط صارمة وإقرار تقرير متجانس تشارك فيه وزارات البيئة والصحة والزراعة. وأوضح أن رخص التشغيل مرهونة بنتائج تحاليل مخبرية دقيقة تنفي أي تحورات جينية أو أضرار تنتقل إلى السلسلة الغذائية.

الغزو الحيوي

حذرت سامية جلال سعد، أستاذة بالمعهد العالي للصحة العامة والبيئية، من مخاطر التوسع في مشروعات استزراع الذبابة دون تراخيص رسمية، مؤكدة أن الإكثار من هذه الحشرة كبديل لبروتين أعلاف الماشية والدواجن والأسماك قد يفتح الباب أمام اختلالات بيولوجية جسيمة، تتفاقم بتغير المناخ، مما قد يفرض على الدولة تكاليف معالجة عالية مستقبلاً.

الحق في الشفافية

على صعيد الأمن الغذائي، شددت سامية على ضرورة كشف مدخلات الإنتاج الحيواني للمستهلك، محذرة من حدوث صدمة جماعية إذا علم المستهلك بتغذية المنتجات على حشرات تُربى في بيئات ملوثة، حيث أن إخفاء هذه الحقائق قد يزعزع الثقة في قطاع اللحوم بالكامل ويسبب خللاً اقتصادياً.

تراكم السموم

أكد هاني جادو، أستاذ تغذية الحيوان بجامعة عين شمس، أن بروتين يرقات "الجندي الأسود" ليس آمناً بالكامل، مشيراً إلى تراكم السموم والمعادن الثقيلة والمبيدات، ما ينقل المخاطر إلى الإنسان عبر السلسلة الغذائية. كما نبه إلى وجود مخاطر ميكروبية قد تسبب مقاومة للمضادات الحيوية أو اختلالاً في ميكروبيوم الأمعاء، وهي جوانب لم تُبحث كفاية حتى الآن.

مخاوف الإنتاج والقبول

أوضح جادو أن الدهون العالية في اليرقات قد تسبب السمنة ومشاكل الكبد للحيوانات، فضلاً عن تغيّر نكهة وجودة اللحوم والألبان، ما يهدد قبولها تجارياً. وأكد أن الادعاءات حول الاستدامة البيئية قد تنهار أمام تكلفة المعالجة العالية ومخاطر إدارة المخلفات، مؤكداً أن القيمة الغذائية لا تعني السلامة في غياب اللوائح الصارمة.

حشرة غريبة وملوثة

أكد طه عبد المطلب السيسي، رئيس بحوث متفرغ بمعهد بحوث وتكنولوجيا الأغذية، أن ذبابة "الجندي الأسود" حشرة غريبة وملوثة تتغذى على الروث والجيف، ما ينقل المعادن الثقيلة والميكروبات الضارة إلى السلسلة الغذائية، محذراً من المخاطر الصحية والتغيرات الجينية المجهولة، مع تفنيد حجة "تنظيف البيئة" بوجود بدائل آمنة مثل إنتاج "البيوجاز".

مخاطر التوطين والبدائل الآمنة

حذرت عفاف محمد علي، رئيس بحوث متفرغ بمعهد بحوث وتكنولوجيا الأغذية، من مخاطر توطين الذبابة في مصر، واصفةً المشروع بالغزو البيولوجي، مؤكدة بطلان قياسه بـ"ديدان الأرض المحلية"، ومنبهة إلى أن تغذية هذه اليرقات بالمخلفات قد تنقل سموماً مجهولة الأثر إلى السلسلة الغذائية، داعية إلى الاعتماد على بدائل محلية آمنة مثل الأزولا أو تكنولوجيا تحويل المخلفات النباتية إلى أعلاف.

كابوس الغزو الحيوي والتلوث الجيني

تتطلب تربية الذبابة رقابة صارمة لمنع تحولها إلى "نوع غازي" يهدد التنوع البيولوجي المحلي، حيث تشير دراسات MDPI وBiological Invasions إلى قدرتها العالية على التكيف، وحذر الخبراء من هروب سلالات مخبرية محسنة وتهجينها مع البرية، مما يخل بالتوازن الإيكولوجي ويضر الحشرات المحلية المفيدة.

فخ اللقيم وجودة المخلفات

أثبتت الأبحاث أن التلاعب بنسبة الكربون إلى النيتروجين في غذاء اليرقات يزيد الوزن لكنه يقلل جودة البروتين، كما أن اليرقات التي تتغذى على مخلفات منخفضة الجودة تنتج أحماضاً أمينية غير متوازنة وتراكم سموماً فطرية وبكتيرية مقاومة للمضادات الحيوية، ما يرفع مخاطر الإصابة بالأورام واضطرابات هرمونية للبشر.

أرقام وخطوط حمراء

تفرض الأبحاث محاذير صارمة بشأن نسب إدراج يرقات الجندي الأسود في الأعلاف، إذ تؤدي نسب مرتفعة للأسماك والدواجن إلى مشاكل صحية وجودية، بينما يُوصى بنسبة محددة لضمان سلامة المناعة. وفي المجترات، تؤثر مادة "الكيتين" على هضم الألياف، ما يجعل تجاوز النسبة المحددة سبباً في انخفاض الطاقة الحيوية.

ميزان الأمان الحيوي

يبقى ملف "الجندي الأسود" مفتوحاً على كل الاحتمالات، فبينما يضغط الاقتصاد لإيجاد بدائل أعلاف، يظل "الأمان الحيوي" وحق المستهلك في الشفافية خطوطاً حمراء لا تقبل القسمة. الموازنة بين تدوير المخلفات وحماية السلسلة الغذائية من السموم والتلوث الجيني تتطلب تشريعات دقيقة ومختبرات متقدمة، ليظل العلم الفيصل لضمان سلامة الإنسان غداً.