جريدة الديار
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار

د. وسيم السيسي في حوار عابر للزمن: سر «الشرارة الأولى» في هايد بارك.. أصبحت حارسًا أمينًا على علم المصريات.

الديار - أحمد عبد الحليم -

د. وسيم السيسي: الجراحة مهنتي.. و مصر القديمة هي بوصلة حياتي.
«نيجيري لندن» و «مصر التي لا تعرفونها» هكذا بدأت رحلتي في استعادة حكمة الأجداد.

يقف الدكتور وسيم السيسي، بمثابة جسرٍ عابرٍ للزمن؛ يدٌ تمسك بمشرط الجراحة لتعالج أوجاع الحاضر، و عقلٌ يبحر في برديات الماضي ليفك شفرات الوجود، ليجمع ببراعة بين رهافة مبضع الجراح و شموخ ريشة «ماعت» التي تُحيي العدالة. و هو الطبيب الذي لم تمنعه أسوار كليات الجراحين الملكية في إنجلترا و أمريكا ونخصصه في جراحة المسالك البولية و الكلى والجراحة العامة، من الإبحار في محيط الحضارة المصرية القديمة، ليعيد الاعتبار لهويتنا التي تاهت بين السطور بروح العالم المعاصر؛ لذا نحن لا نبحث في هذا الحوار عن تاريخ الأجداد فحسب، بل نفتش عن «الشرارة الأولى» التي أشعلت شغف الجراح، ليصبح حارسًا أمينًا على ذاكرة أمة أراد لها أن تستعيد وعيها بذاتها.
و في هذا الحوار، نبحث عن سر «الشرارة الأولى» التي جعلت طبيبًا مرموقًا في جراحة المسالك البولية يصبح واحد من أشرس المدافعين عن إرث أجدادنا المصريين؛ تلك الشرارة التي لم تلبث أن تأججت لتصبح شعلةً تنير دروب العلم الحديث بفيضٍ من موروث حضارتنا القديمة، و تعيد صياغة وعينا بماضينا الذي لا يزال حيًا في تفاصيل حاضرنا.
• دكتور وسيم، نبدأ من نقطة شغفك بتاريخ قدماء المصريين .. كيف لـ «هايد بارك» لندن أن تجعل مسار طبيب مصري جاء ليدرس الجراحة، ليعود و هو مسكونٌ بعلم المصريات؟
د. وسيم: (يبتسم باستعادة للذكريات) و يقول: إن الغُربة هي التي تمنحك المرآة لترى ذاتك. بدأت القصة حين سافرت إلى إنجلترا لنيل درجة الدكتوراه؛ حيث كان شغفي بالشأن العام يدفعني للكتابة في الصحف البريطانية. و في محاولة لتطوير نمط مقالاتي و البحث عن موضوعات أكثر إثارة، اعتادت قدماي أن تقودني كل يوم أحد إلى «هايد بارك» لأمكث فيها من الظهر و حتى العصر، وسط تباين الآراء و مشاهدة كل ما هو غريب و عجيب. و في ذلك اليوم المشهود، لفت نظري رجلاً يتعبد لشجرة و يشكرها لأنها تمنحه الأكسجين، و حين سخرت منه فتاة، أسكتها بالعلم و هو يثبت لها أن «الكلوروفيل» في النبات هو التوأم الكيميائي لهيموجلوبين الدم، و من هنا انبثقت لديّ فكرة خيالية: ماذا لو استلهمنا «التمثيل الضوئي» في الإنسان لنحل أزمة الغذاء؟
لكن المشهد الأهم كان على بُعد خطوات، استوقفني تجمعٌ كبير حول رجل إنجليزي يقف على منصة تبدو و كأنها مسرحٌ صغير لخطاباته، حيث كان يتحدث بنبرة التفاخر عن عظمة «نور العلم» البريطاني، مُعددًا إنجازات بلاده من اكتشاف البنسلين و حتى أساليب التعقيم الحديثة، ليقاطعه رجل أسمر البشرة «نيجيري» بكل ثقة قائلاً: للرجل الإنجليزي «توقف.. أنا من أعطيتك الحضارة، فجذور علمك تمتد لمصر القديمة». أخذ النيجيري يُعدد كيف تعلم أفلاطون و طاليس و فيثاغورس في معابد هليوبوليس، و كيف أن الفلسفة و القانون ولدا في أرض مصر. استرسل الرجل النيجيري في سرد الأدلة التاريخية بحماس، حتى قاطعه الرجل الإنجليزي مُتسائلاً بنبرة من الدهشة: « هل أنت مصري؟»، فجاء الرد سريعًا و قاطعًا: « لا.. لست مصريًا، و لكن تعلمت بها كما إن مصر تقع في قلب إفريقيا، و أنا ابن هذه القارة التي علمتكم وعلمت العالم أجمع معنى العلم والمعرفة».
• و كيف كان شعورك و أنت تشاهد الرجل النيجيري يدافع عن حضارة مصر بلدك أمام «العَنجهية» البريطانية؟
د. وسيم: شعرت بمزيج غريب من الفخر و الغضب! كنت «طاير في السماء» من كلامه و دفاعه عن حضارة مصر، لكنني كنت غاضبًا من عدم علمي بما يعلمه النيجيري عن حضارة مصر و أنا مصري. قلت لنفسي: هل يُعقل إننا لم نعرف عن أجدادنا سوى أسماء الملوك (خوفو و خفرع و منقرع)؟ هل سقطت روح البحث من قلوبنا؟ كانت تلك اللحظة هي «شهادة ميلادي» كباحث في علم المصريات.
• ذكرتَ أن رحلة البحث لم تتوقف عند «هايد بارك»، بل امتدت إلى كواليس السياسة البريطانية و مجلس العموم.. فكيف قادك هذا الأمر؟
د. وسيم: تركت هذا الجمع في «هايد بارك» و كان ذلك يومًا مشهودًا بعد أن ذهبت إلى مجلس العموم البريطاني، حيث خاضت المُعارضة الشرسة «باربرا كاسل» مواجهة حادة مع الحكومة، لدرجة أن الصحف نشرت في اليوم التالي عنوانًا مدويًا: «باربرا كاسل تسيل الدماء في مجلس العموم». خلال تلك الجلسة، تقدم مواطن بطلب غريب يطالب فيه برد رخصة القيادة للأمير «فيليب» (زوج الملكة إليزابيث) طالما أنه لم يصدم أحد بسيارته حتى يستطيع الخروج، فكان رد رئيس المجلس حازمًا بالرفض، مُتسائلاً باستنكار: «و هل على رأسه ريشة ليُمنح استثناءً؟ فالقانون فوق الجميع».
• ذكرت من قبل موقفًا طريفًا حول عبارة «على رأسه ريشة».. هل للغة العامية المصرية جذور في «الماعت»؟
د. وسيم حديثه: عقب عودتي للمستشفى، نقلت تفاصيل ما جرى في مجلس العموم لزميل إنجليزي، وقلت له مازحًا: «يبدو أنكم استعرتم منا تعبيرنا الشعبي (على رأسه ريشة) ». لكن المفاجأة كانت في رده الصادم حين نظر إليّ بدهشة قائلاً: «بل أنتم من نسيتم أن هذا اللفظ يعود لريشة (ماعت) ربة العدالة المصرية القديمة؛ و قد اختار أجدادك ريشة النعامة تحديدًا لأنها تتساوى تمامًا على جانبيها، و العدالة الحقيقية لا تستقيم إلا بهذا التساوي المطلق». في تلك اللحظة، شعرت بضيقٍ شديد من نفسي؛ كيف يعرف الغرب تفاصيل عظمتنا بينما نجهلها نحن؟ و اتخذت قرارًا حاسمًا لا رجعة فيه؛ أن أغرق في بحور الحضارة المصرية قراءةً و بحثًا، و هو الشغف الذي رافقني حتى لحظة عودتي إلى مصر أرض الوطن.
• و متى بدأت رحلة «القلم» في عالم المصريات؟ و كيف تحول المشرط إلى أداة لتدوين التاريخ؟
د. وسيم: بدأت هذه الرحلة بمفارقة غريبة عقب عودتي من لندن إلى مصر و عملي بمستشفى الساحل التعليمي في شبرا بالقاهرة؛ حين أجريت جراحة دقيقة لاستخراج «مقص» ظل منسيًا في بطن مريض لعشر سنوات. ضجت الصحف بالخبر، و نشرت جريدة الأهرام ريبورتاجًا كاملاً عن الواقعة.
• بالعودة إلى البدايات.. ما هو مقالك الأول الذي دشنت به رحلتك في عالم الكتابة، و ما هي الحقائق التي أردت كشفها في ذلك الوقت؟
د. وسيم: نعم، في يوم النشر نفسه لريبورتاجًا عملية إستخراج المقص، فوجئت بالكاتب الكبير عبد الوهاب مطاوع يزورني، داعيًا إياي للانضمام لأسرة «أصدقاء بريد الأهرام» و التي تجتمع كل أربعاء من كل أسبوع و الكتابة للجريدة. لبيت طلبه و ذهبت إليه في أول لقاء أربعاء ليّ مع أصدقاء بريد الأهرام و طلب مني أن أكتب في الجريدة مقال، لبيتُ دعوته على الفور، و ذهبتُ لحضور أول لقاء ليّ مع أسرة الأهرام في اجتماعهم الدوري يوم الأربعاء. و هناك، وسط كوكبة من المثقفين، طلب منيّ عبد الوهاب مطاوع بشكل مباشر أن أكتب مقالاً للجريدة؛ لم أتردد، و كتبت مقالاً بعنوان «مصر التي لا تعرفونها»؛ صغته بأسلوب وجداني بسيط يحاكي نبض الشارع المصري، مُتحدثًا عن ريادة أجدادنا.
أردت في هذا المقال أن أخبرهم أننا «أصل الأشياء». نحن أول من اكتشف علاج «البلهارسيا»، و أول من ابتكر السلم الموسيقي السباعي، و أول من استخدم «الدودة» كسماد طبيعي. حتى الهرم الأكبر، ليس مُجرد مقبرة؛ حيث أن «جون تيلر» أثبت أن ضرب وزن هذا الهرم في 100 مليون يعطيك وزن الأرض، و ارتفاعه يحدد المسافة للشمس. أجدادنا عرفوا النسبة الثابتة قبل نيوتن و أينشتاين بآلاف السنين. نحن لم نكن بناة أهرامات من حجارة، بل كنا بناة «أرقام و مُعجزات». و المفاجأة أن تلك الرسالة تصدرت صفحة البريد و فازت بلقب « أجمل رسالة لعام 1995م »، بعد أن لامست قلوب القراء في مصر و أيقظت فيهم روح الفخر بحضارتهم.
• و هل كانت هذه الرسالة هي «البوابة الملكية» لظهورك الأسبوعي في الصحافة؟
د. وسيم: نعم، فقد كان صدى مقال «مصر التي لا تعرفونها» سببًا في اتصال هاتفي من الكاتب الكبير محمد عبد المنعم، رئيس تحرير «روزاليوسف» آنذاك، الذي عرض عليّ تخصيص صفحة أسبوعية ثابتة عن مصر القديمة. في البداية إعتذرت؛ فغرفة العمليات و جراحة المسالك تستنزف كل وقتي، لكنه حاصرني بمنطق لا يقبل الرفض قائلاً: «هذا واجب وطني لا يجوز التخلي عنه». و من هنا، انطلقت شرارة الكتابة التي لم تنطفئ منذ ذلك الحين.
• إذا كانت تلك المقالة هي «بُوصلة الإبحار» التي حددت المسار؛ فكيف انطلقت للكتابة؟ و ما هي أبرز المفاهيم التي قررت مواجهتها؟
د. وسيم: لم تكن البداية تقليدية، بل بدأت من تلك المكتبة القابعة عند مدخل المتحف المصري بالتحرير على اليسار. هناك، استوقفني كتابٌ مُذهل للباحث «جون تيلر» بعنوان (رياضيات الهرم الأكبر). غُصت في أرقامه التي لا تكذب، و كتبت مقالاً أحدث صدمة معرفية ممتعة؛ كشفتُ فيه كيف أن الهرم ليس مُجرد بناء، بل هو «مرصد كوني». فهل يتخيل عقل أن وزن الهرم إذا ضُرب في 100 مليون يساوي وزن الكرة الأرضية؟ أو أن ارتفاعه في 100 مليون يعادل المسافة بين الأرض و الشمس؟
• ما هي أبرز الحقائق الصادمة التي توصلت إليها حول صلة المصرية القديمة بالكتب السماوية و اللغات العالمية؟
د. وسيم: خلال تسع سنوات من الكتابة المستمرة بمعدل مقالين أسبوعيًا، غصت في أعماق العقيدة و الهوية، لتكشف ليّ الأبحاث أن مفردات الأديان السماوية الثلاثة لها جذور ضاربة في المصرية القديمة. و القرآن الكريم نفسه أشار إلى ذلك في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا}؛ و هذا المشهد مسجل بدقة على جدران المعابد، حيث نرى صفوفًا من المُصلين خلف رجل يسمى «إمم» (و هو أصل كلمة «إمام»)، و قبل الأذان كان يتوجه المصلون إلى «البرضوا» (و هو بيت الوضوء).
و لم يتوقف الأمر عند العقيدة، بل وجدتُ أن آلاف الكلمات المصرية هي «الأم» للغات العالم؛ فكلمة (Sir) الإنجليزية تعود لأصل مصري بمعنى الرجل العظيم، وكلمة (Cube) الإنجليزية مُشتقة من «كابا» الهيروغليفية التي تعني «الكعبة» أو المكعب.
إن الأرقام تتحدث عن عظمة أصلنا؛ فالأسرة المصرية الأولى ظهرت عام 5619 قبل الميلاد، بينما أول نص عربي مسجل يعود لعام 328 بعد الميلاد (على شاهد قبر امرؤ القيس) امرؤ القيس ملك العرب و نائب قيصر الروم حارب أهل نجران و أخضعهم ولدي برديات ترجع لـ 5619 قبل الميلاد، فهناك 16 ألف كلمة مصرية قديمة دخلت في اللغة العربية؛ فكلمة «صوم» أصلها «صاو» و تعني يمتنع، و حتى أنشودة الأطفال الشهيرة «وحوي يا وحوي» هي نداء مصري قديم يعني «أظهر يا قمر». نحن أمام لغة لم تمت، بل تعيش في صلواتنا، لغاتنا، وحتى أهازيجنا الشعبية.
في ختام الحوار مع «حكيم المصريات» د. وسيم السيسي، ندرك أن علم المصريات في وجدان الدكتور وسيم السيسي ليس مُجرد نصوص هيروغليفية أو أحجار صماء، بل هو دستورٌ للحياة، و قانونٌ للعدالة، و لغةٌ تسري في عروقنا قبل أن تنطق بها ألسنتنا. يضع الطبيب العالم بين أيدينا أمانةً و دعوةً مُلّحة لترميم الوعي الجمعي؛ فالمستقبل في نظره لا يولد من فراغ، بل يتجلى في استعادة تلك الجذور الضاربة في أعماق التاريخ، لنستلهم منها الدواء الشافي لأوجاع الحاضر.