جريدة الديار
السبت 20 أبريل 2024 04:32 مـ 11 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الحسين عبد الرازق يكتب .. محطات في حياة الشيخ رفعت !

الحسين عبد الرازق
الحسين عبد الرازق

منذ أن كنا صغاراً نلعب ألعاب الصغار إرتبط في أذهاننا قدوم الشهر الفضيل بصوت الشيخ محمد رفعت .. الذي شاءت إرادة الله أن يزورنا "شهر رمضان"ذلك الضيف الكريم هذا العام قبل أيام قلائل من الشهر الذي شهد ميلاد الشيخ وفيه ذاعت شهرته وإرتقت فيه أيضاً روحه الطاهرة إلي بارئها .

ففي اليوم التاسع من شهر مايو عام ١٨٨٢

قبل مائة وثمانية وثلاثون عاماً

هنا في القاهرة وفي حي المغربلين ...

ولد طفل جميل لأب يعمل مأموراً لقسم شرطة الخليفة وأم هي امرأة بسيطة من

"ستات مصر " الطيبات .

غمرت الفرحة قلبيهما وسجدا لله شكراً

علي ما رزقا من فضل الله .

كان الطفل جميلاً بهي الطلعة يسر برؤيته

كل من رآه ....

ولأن العين حق كما قال رسول الله ( ص)

" العين حق ولو كان شيءٌ سابقَ القدر لسبقته العين وإذا استُـغسلتم فاغسلوا"

صدق رسول الله (ص)

حبا الله الطفل بكثير من الجمال فناله سهم من سهام إبليس ..

فبعد أن شاهدته إحدي جيران والدته والتي ما أن رأته حتي " شهقت بوجهه " مبدية دهشتها لشدة إتساع عيناه اللتان وصفتهما بالعينين الملكيتين ( أي أنهما عيني لملك من نسل ملوك ) وليستا عينان لطفل من أبناء العوام !

لم يكد يمر أسبوعاً واحداً حتي أصيب الطفل بمرض في عينيه فقد علي أثره البصر تماماً!

لا لشيئ غير أن إمرأة حاسدة إستكثرت علي أسرة بسيطة إنعام الله عليهم بطفل جميل العينين ...

بسم الله الرحمن الرحيم

" أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِه " ِ صدق الله العظيم .

ألحق المأمور ولده بالكتّاب ليحفظ القرآن الكريم كونه أضحي الآن طفلاً كفيف البصر ضريراً .

ليتمكن الصغير بعد ثلاث سنوات من إتمام حِفظ كتاب الله كاملاً عند سن الخامسة !

ليس هذا فحسب .. بل قام بدراسة عِلم القراءات وعلم التفسير كما تعلم المقامات الموسيقية وأتقنها وهو ما ساعده فيما بعد

حين توفي والده فجأة في عام ١٨٩٠ ليتلقي الصدمة الثانية بعد أن أخذ صدمته الأولي عندما فقد بصره !

وجد الطفل نفسه وقد أصبح مسئولاً عن أسرة هو عائلها الوحيد قبل أن يكمل عامه التاسع! الأمر الذي دفعه للتلاوة بمسجد فاضل باشا الذي سبق وأن أتم حفظ القرآن في كتّابه بدرب الجماميز في حي السيدة زينب .

إستمر الشيخ الصغير يقرأ القرآن بالمسجد حتي ذاع صيطه بين الناس ماجعل الإذاعة المصرية وعند افتتاحها في عام ١٩٣٤ ترسل في طلبه لتلاوة آيات الذكر الحكيم تيمناً بصوته الذي لاقي استحساناً كبيراً لدي كل من إستمع إليه .

تردد الشيخ في البداية في قبول الدعوة نظراً لإرتيابه في جواز التلاوة بالإذاعة ، ولكسر تلك الريبة لم يجد أمامه سوي سؤال الشيخ محمد الظواهري( شيخ الجامع الأزهر في حينه ) والذي أجاز له التلاوة في الإذاعة وهو ما تم بالفعل لتبدأ الإذاعة المصرية إرسالها للمرة الأولي ب ( إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ) آيات بينات من سورة الفتح بصوت القارئ الشاب محمد رفعت .

لم تكن تلك هي الواقعة الوحيدة التي تجلي لنا من خلالها الحرص الشديد لدي الشيخ علي تحري الدقة قبل الإقدام علي إتخاذ أي قرار بل والوقوف علي مشروعية القرار .

فبعدها بسنوات وحين طلبت إليه هيئة الإذاعة البريطانية ( BBC) أن يسجل لها القرآن الكريم بصوته تردد أيضاً ورفض رفضاً قاطعاً ظناً منه بأنه أمر لا حلال فيه كونهم غير مسلمين ، وظل علي رأيه إلي أن أفتاه " الشيخ المراغي " بجواز التسجيل لهم ..

ولكن يبدو أن الشيخ رفعت

لم يكن مطمئناً تمام الإطمئنان إلي جواز هذا لعمل بدليل أنه قدإكتفي فقط بأن سجل لهم سورة مريم ثم إمتنع عن تسجيل المزيد !

عُرف عن الشيخ رفعت رقة القلب ورهافة الحس خاصة تجاه الفقراء ..

ويُحكي أنه كان للشيخ صديق ومرِض مرض الموت فزاره للإطمئنان عليه ليخبره الصديق باكياً بأن أكثر مايقلقه هومصير فتاته الصغيرة التي لن تجد من يرعاها بعد موته .

تأثر الشيخ كثيراً بكلمات صديقه لدرجة أوصلته للبكاء هو الآخر في اليوم التالي أثناء تلاوته لسورة الضحي عندما وصل في التلاوة إلي قول الله (وأما اليتيم فلا تقهر) ليقرر بعدها رعاية إبنة صديقه الذي توفي والتكفل بها إلي أن تزوجت .

كان صوت الشيخ رفعت مزيجاً بديعاً من الخشية والخشوع والحنو والقوة ...

صوت إلتفت حوله قلوب المصريين علي اختلاف طوائفهم وطبقاتهم الإجتماعية ودياناتهم .

فليس فقط المسلمون من المصريين بل والأقباط أيضا ً!

ويقال أن ضابطاً كندياً كان قد إنتهز فرصة وجوده في مصر خلال الحرب العالمية الثانية وطلب مقابلة الشيخ رفعت وسهل له مدير الإذاعة هذا الطلب وتمت المقابلة ..

و ما أن رأي الضابط الكندي الشيخ رفعت

حتي بكي بشدة وقال لم أكن أعلم بأنه أعمي .

الآن فقط عرفت سر ذلك الألم العظيم الذي يفيض به صوته العبقري !!

رفض الشيخ رفعت عرضاً قدمه له

( عثمان حيدر أباد ) أغني وأبخل رجل في العالم بأن يحضر إلي الهند مع كل من أراد اصطحابه من مساعديه!

بأجر "مائة جنيه في اليوم الواحد" وهو مبلغ ضخم جداً في حينه إضافة للتكفل بكل نفقات الرحلة والإقامة ولكن الشيخ رفض العرض مفضلاً البقاء في مصر وإحياء ليالي الفقراء بالمجان .

في عام ١٩٤٣ أصيب الشيخ بسرطان الحنجرة وهو المرض الذي توقف علي أثره عن القراءة مجبراً فسارع ملوك ورؤساء وزعماء الدول الإسلامية إلي إبداء رغبتهم في تحمل تكاليف علاجه بأي مكان في العالم !

ليشكرهم الشيخ الذي لم يكن يملك أية نقود تذكر!

رفض كل تلك العروض وقال قولته المشهورة ( إن قارئ القرآن لا يهان )

رحل الشيخ عن دنيانا في عام ١٩٥٠

في القاهرة وفي نفس يوم ولادته!

رحم الله الشيخ رفعت

صاحب الصوت الجميل وسيد قراء هذا الزمان .