جريدة الديار
الأربعاء 24 أبريل 2024 10:46 مـ 15 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

حنان مصطفي فهمي تكتب : جرس الباب

  حنان مصطفي فهمي
حنان مصطفي فهمي

تجلس كل يوم على تلك الأريكة.. تعد الثواني الآتية من ساعة الحائط التي تدق مثل ناقوس الخطر، وكلما تزداد الثواني تقل معها الساعات المتبقية لها في الحياة.. فلم تصبح كسابق عهدها.. فقد كانت يوماً ما تنظر من تلك الشرفة لترى كل البساتين الشاسعة، وتذكرت عندما كانت تلعب منذ الصباح وحتى المساء دون تعب، لم تكن تصدق أنَّ الزمن سيأخذ منها كل ما أسعد طفولتها، ويتحوَّل اللون الأخضر إلى بيوت وعمارات لا عدد لها. تسأل نفسها: كيف للشباب أن يمر، والسنون تجري مثلما جرت قديماً وأخذت معها زوجها الذي لم تعرف قبله معنى أن تكون أجمل امرأة في العالم، لأنه لم يكن في عالمه أيّة نساء غيرها، سرحت بخيالها وتمنَّت.. آهٍ لو يعود الزمن من جديد أو يتقدم، لتذهب لحياة أخرى تلقاه فيها ولو لحظة واحدة، تتذكر فيها كل أيام تلك السنين التي عاشتها معه قبل أن يلقى حتفه تحت عجلات تلك الشاحنة اللعينة.. ما زالت تتذكر تلك اللحظة التي قتل فيها زوجها وحبيبها تحت عجلاتها.. وهو الذي جعل أعوامها( الإثنان) والستين بعده(. عذاباً ). .. وسرحت للحظات، هل لو عاد بها الزمن كانت ستغير من القدر وتمنع زوجها من الخروج في هذا اليوم المشؤوم؟ وهل كان سيظل معها باقي عمرها يجلس بجانبها وينظران معاً من تلك الشرفة؟ وفجأة يدق جرس الباب! لحظة من فضلك أيها الطارق. قالت ذلك له لترتب المكان الذي مرت ربما خمسة أو سبعة عقود لم تفتح بابها لزائر قط، إلا ابنها وفلذة كبدها الذي يأتي إليها كل صباح بدراجته لزيارتها والاطمئنان عليها، بعد أن أصبح "جَداً" مصطحباً حفيده معه ليجلس مع جدته الكبيرة، فلولاه لما عاشت لحظة على قيد الحياة من الجوع.. نعم الجوع.. جوع الأُنسَة.. فتحت الباب بصريره المدويَّ يصطحب معه غبار السنين، وقالت بحماسة كبيرة: تفضل يا بُنيّ. ولكن هذه المرة وجدت فتاة تقف أمامها جميلة الطلة بشعرها الذهبي الذي يغطي ظهرها وكأنه سلاسل من الذهب، وكانت لا تزيد في العمر على عشرة أعوام. سألتها: من أنتِ؟! أجابت الفتاة، مبتسمةً: أنا أمنية. وماذا تريدين يا أمنية؟ سألتها بصوتها المهتز وظهرها المنحني على عتبات السنين، وجسدها النحيل الذي يرتعش بعدما تقدم العُمر.. أجابت الفتاة: أنا أمنية تمنيتِها أنتِ وتحققتْ، لقد أتيت لأعود بك إلى الماضي، لتمنعي زوجك وحبيب العمر من النزول في تلك اللحظة المشؤومة. ووضعت الفتاة شرطين، أولهما: ألّا تخبره بما سيحدث له، والثاني: أمامك فقط أربع وعشرون ساعة. تعجبت العجوز، وأخبرتها أنها توافق على الشرطين. وسألتها: كيف سيكون ذلك؟! فطلبت منها الصغيرة الجلوس على الأريكة، وأن تغمض عينيها. وبالفعل قامت بهذا، وذهبت في سبات عميق، لتستيقظ على أصوات العصافير والطيور وضوء الشمس الساطع في جميع أرجاء المنزل، فتسرع إلى الشرفة لتجد الحقول الخضراء والأشجار أمامها.. وتلتفت إلى صوت من خلفها لم تسمعه منذ أعوام طويلة: حبيبتي لقد (أعددت) لكِ اليوم الإفطار كي لا ترهقي نفسك، فأنت في شهورك الأولى من الحمل، ويجب أن تستريحي وتعتني بنفسك وبمولودنا القادم. إنها تتذكر جيداً أنها أصبحت عجوزا في السابعة والثمانين من عمرها، تسرع إلى المرآة وتنظر لتجد نفسها عادت( للخامسة) والعشرين من العمر، فتعود لزوجها وتشكره وتوجَّه له الحديث: لا أريدك أن تتعب، ألا يكفيك ما تعانيه بالعمل طوال اليوم دون راحة؟ وتجلس معه على الطاولة، يتناولان معا الإفطار، ويتبادلان أجمل الكلمات وعبارات الحب. يرتدي ملابسه للاستعداد للذهاب إلى العمل، ويودعها مقبَّلا يدها ليذهب إلى حال سبيله. وهنا بدأ الوقت يجري، بقي من الزمن عشرون ساعة، أسرعت إلى المطبخ لتجهَّز الغداء وتقوم بترتيب المنزل وتجهيز البخور الذي اعتادت أن تجهَّزه لحبيبها حين يعود. ويمر الوقت ويعود الحبيب إلى زوجته وتفتح له الباب وهي في قمة جمالها وسعادتها بوجوده، ليجد المبخرة تمتلئ بالبخور الذي يعبق المكان برائحة العنبر، والغداء ينتظر على الطاولة، فيأخذها بين ذراعيه بحنان، ويقبل جبينها ويديها، ويخبرها أنها ملكة أحلامه وحبيبة العمر، ويجلسان لتناول الطعام، وهنا يخبرها أنه ذاهب اليوم للعشاء عند والده، فهو في حاجة إليه على وجه السرعة، وهنا تتذكر أنَّه موعده مع الموت. فهو خرج لزيارة والده، وهو في الطريق وعندما كانت تنظر من الشرفة لتودعه وهو يعبر الطريق دهسته تلك الشاحنة الضخمة. تحدثت مع نفسها: كان يجب ألّا يذهب. ولكنه لم يعتد أن تمنعه يوما أن يذهب لوالده من قبل. لا بد وأن تجد حجة (مقنعة) تمنعه من النزول، بدأت تفكر. لم تجد غير أن تدعي التعب، وأنَّه لا بد أن يقوم بإحضار الطبيب، لأن الجنين لا يتحرك في بطنها. وبالفعل قالت له ذلك. فذهب سريعاً وأحضر الطبيب. وتم توقيع الكشف الطبي عليها، وأخبرها الطبيب أنَّ حركة الجنين جيدة، ولكن لا بد لها من الراحة والاسترخاء. وعندما خرج الطبيب من الغرفة طلب من زوجها أن يعطيها دواء يجعلها تنام، فقد لاحظ توترها، وطلب منه أن يذيب لها الدواء في العصير لأنها ترفض تناول الأدوية حرصاً على الجنين. وبالفعل نفذ الزوج ما طلبه الطبيب، أحضر الدواء وقام بصنع العصير لها وأذابه فيه دون أن تشعر، وأعطاه لها وهي مطمئنة أنه سيبقى بجانبها ولن يذهب لوالده، لأنها قررت إذا حاول النزول فستقوم بادعاء الألم، وهي تعلم مدى عشقه لها، وبذلك ستضمن بقاءه معها وتمر تلك اللحظة اللعينة. ولكن تأثير الدواء كان أقوى، فذهبت في سبات عميق, و(أثناء نومها فكر زوجها أن يذهب سريعاً إلى والده ويعود قبل أن تفيق من نومها)، واستيقظت على صوت باب المنزل يغلق فهرعت إلى الشرفة لتجد زوجها يعبر الطريق ومن الناحية الأخرى تهجم الشاحنة عليه لتدوسه بعجلاتها ليلقى حتفه فيغشى عليها، ومن هول الصدمة راحت في غيبوبة، إلا أنّ قوتها جعلتها تستيقظ من جديد (لتعود بالزمن )وتفيق على صوت جرس الباب فتذهب ببطء لتفتحه، فهي لم تكن تعلم أن تلك اللحظة ستكون آخر لحظة لها في الحياة، وفارقت الدنيا قبل أن تعرف من كان بالباب؟!