جريدة الديار
الخميس 25 أبريل 2024 03:45 مـ 16 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

كتاب ”الأعظم“ .. قصة النبي للكاتب كريم الشاذلي

كتاب " الأعظم "
كتاب " الأعظم "

صدر كتاب الأعظم عن قصة النبي محمد للكاتب كريم الشاذلي .

نبذة من الكتاب :

نحن الآن في أواخر شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة ، ثمة صداع حاد يؤلم النبي محمدًا، حاول الرجل أن يتحمل وجعه غير أنه زاد عليه فمنعه من الخروج ولقاء الناس.. فطلب ممن حوله أن يأتوه بماء يتبرَّد به... ماء كثير! فجاؤوا إليه -وفق أوامره- بسبعة قرب من الماء جمعوها من آبار شتى، ثم أقعدوه في مخضب وصبوا عليه الماء، لم يتوقفوا حتى أمرهم بذلك قائلًا: «حسبكم... حسبكم».

وما إن استشعر النبي شيئًا من العافية، وأن حرارة جسده قد انخفضت قليلًا حتى استدعى ابن عمه «الفضل بن العباس» وقال له: «خذ بيدي».

معصوب الرأس خرج به الفضل حتى دخل المسجد، فجلس النبي على المنبر، ثم قال له: «نادِ في الناس».

اجتمع القوم ليروا نبيهم وقد أنهكه التعب، الرجل الذي لطالما أشعل دنياهم حماسًا، يجلس وقد انهزمت العافية في جسده، بدا كأنه مودِّعٌ عن قريب... جلس الناس ينظرون إليه وكلهم طمع في أن يُطمئنهم الرجل أن ما يرونه ليس هو كل الحقيقة، وأنه سيعيش إلى الأبد، أنه لن يرحل، أنه نبيٌّ مُخلَّد...! نعم، كلنا نتناسى أن الموت قريب منا، نتناسى أننا ومن نُحب في جدوله، كل ما هنالك أن الدور لم يأتِ بعد! جلس النبي على المنبر منتظرًا حتى اجتمع الناس، ثم قال لهم ما لم يتوقعوا سماعه...

الرجل يريد أن يرحل وليس لأحد عنده حق أو حاجة. وهكذا العظماء، دائمًا يُضربون صفحًا عما قدموا وينشغلون بما يجب أن يقدموا، منهمكون في العطاء، يودُّ الواحد منهم أن يكون له فوق عمره عمرًا كي يعطي كثيرًا، يعطي في بذخ وطيب خاطر.

قال النبي: «أما بعد، فإني أحمد الله إليكم... الله الذي لا إله إلا هو... فمن كنت جلدت له ظهرًا، فهذا ظهري فليستقد منه! ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقد منه!».

نظر القوم إلى بعضهم في ذهول... أيُّ ظهرٍ هذا الذي جلده، وأيُّ عِرض هذا الذي شتمه!

فأكمل النبي يستحثهم على الكلام: «ألا وإن الشحناء ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإنّ أَحبَّكم إليَّ مَن أخذ مني حقًّا! إنْ كان له، أو أحلَّني منه فلقيت الله وأنا طيّب النفس»! جاء أوان الصلاة فقطع النبي كلامه، ثم هبط من منبره وصلى الظهر، وعاد ثانية للمنبر، وكرر كلامه والناس تتقطع قلوبهم شفقة، وحبًّا وخوفًا على حبيبهم، هذا خطاب مودِّعٍ لا ريب.

عاد النبي إلى بيته ثانية، وبدأت العافية تزور جسده لساعاتٍ ظنها الناس نهاية الوجع، وأن أملهم في عودة النبي لمواصلة كفاحه قد تم، حتى إنَّ الناس سألوا علي بن أبي طالب وقد خرج من عند النبي عن صحته فقال: «أصبح بحمد الله بارئًا».

بيد أن الوجع عاد ليضرب من جديد، فاطمة تنظر إلى أبيها في شفقة وتقول: «واكرب أبتاه»، فيهدِّئ روعها الأب الحنون قائلًا: «لا كرب على أبيك بعد اليوم». وترامت الأخبار الحزينة إلى جيش أسامة المتأهب فشاع بين الناس حزن وشجن، فذهب إليه أسامة ليطمئن عليه، دخل ومعه بعض المسلمين فوجد النبي صامتًا لا يقدر على الكلام، اقترب منه فإذا بنبيه يرفع يده إلى السماء ويضعها عليه، فعرف أنه يدعو له.

وصل الأمر إلى عدم قدرة النبي على الصلاة في المسجد، فأمر أن يصلي صاحبه أبو بكر بالناس، وبالفعل صلى أبو بكر إمامًا بالناس سبع عشرة صلاة.

والحقيقة أن تلك الأيام كانت من أشد الأيام ثقلًا على النبي، غير أنه ومع اشتداد الحمَّى عليه كان ذهنه يقظًا غير غائب، وكلماته التي كان يُخرجها بصعوبة من بين شفتيه كانت تحمل دائمًا توجيهًا ما، يرى أهمية أن يُبلغه قبل أن يرحل! وحدث أن غلبه الشوق إلى الصلاة جماعة بأصحابه، فخرج إليهم وصلى بهم وهو قاعد...

فجر الاثنين الذي توفِّي فيه النبي محمد... ما زال الحبيب يتوجَّع، غير أنه سمع حركة الناس في مسجده فأراد أن ينظر إليهم نظرة أخيرة... الرجل معلق القلب بهؤلاء القوم، لا سيما مَن جاهدوا معه حتى يُصبح أمر الدين واقعًا في دنيا الناس، وعليه تحامل النبي على وجعه وقام ليلقي النظرة الأخيرة... رُفع الحجاب الذي يفصل بين الغرفة التي يرقد فيها وبين المسجد فرأى أتباعه يصطفّون في خشوع خلف أبي بكر وهو يؤمُّهم في الصلاة، انتبه القوم فحاولوا أن يُفسحوا له مكانًا كي يمر إلى المحراب، غير أنه أشار بيده أن اثبتوا على حالكم... تبسم النبي مغتبطًا من المشهد، حتى إن أنس بن مالك قال: «ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة».

عاد النبي إلى غرفته ثانية، وقد ظن الناس أن نبيهم يتحسن، وأنه قد أفاق من وجعه، حتى إن أبا بكر الذي لم يتركه أبدًا خُدع هو الآخر وظن أن صاحبه قد تعافى، فقرر أن يمضي لزيارة زوجته التي تسكن بعيدًا في ضواحي المدينة. لكن الواقع كان غير ذلك...

لقد دخل النبي إلى غرفته فوضع رأسه على حِجر عائشة، وما هي إلا لحظات حتى سمعته يتمتم بكلمات، أصاخت السمع فوجدته يردد: «بل الرفيق الأعلى... بل الرفيق الأعلى».

ثم أغمض عينيه... لقد مات النبي...!