جريدة الديار
السبت 20 أبريل 2024 12:38 صـ 10 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

سماح الجمال تكتب : السيناريو الأخير

السيناريو الأخير

اليوم أكمل الستين، هذا العمر الذي لابد وأن أتوقّف فيه عن أشياءٍ اعتدت عليها وأصبحتْ جزءًا من روتيني اليومي، ومن الضروري أن أتعود على أشياءٍ ستحدث، لم أكن لأحتملها في المعتاد.

الستون حركة بطيئة، ذاكرة عليلة، ألوان داكنة، ووقار زائد لا يفيد ومباهج مفقودة، ويد مرتعشة، لكني لن أطيق رعشة يدي، كيف أمسك بالقلم.. كيف أكتب؟

تظل تلح التساؤلات تطاردني كشبح يقبع في زوايا نفسي المظلمة، مر العمر وما زال عندي تجارب لم أحياها وكلمات طازجة تحضرني، لكن لا وقت لإعدادها، أنا لم أجرِّب الخوض في علاقات نسائية خارج حيز الزواج البارد الممل، لم أجرِّب مثلًا أن أشرب خمرًا وأعربد وأقضي أيامًا ماجنة، فاتني الكثير لم أحياه.. حياتي كلها رزمة ورق، وأقلام سوداء، وخطوط لمشاهد أخلقها.

اليوم أبلغ الستين وبداخلي طفل يصرخ.. يخاف الظلام وأن ينام بمفرده، هل تتركني الكلمات وتهرب من رأسي الأفكار؟ إلى هنا ولن أستطيع.فكرت أن أتخلى عن الجدية على الأقل اليوم.. فاليوم ذكرى مولدي، فلأنعش ساعات العمر بأفكاري المتمردة، وأن أقضي بعض الوقت مع نفسي أهرب إليها وأجرّب الجنون، هم يقولون عني ذلك لأرى نفسي اليوم كما يروني بعيونهم الثاقبة والتي لا تتوقف عن متابعتي بلا مواربة.جالت برأسي الأفكار وتسارعت متخبطه مرتعشة سوداوية. كنت أخطط للاحتفال بطريقة مجنونة، ماذا لو كان اليوم هو الأخير وكان القدر ينتظرني بمفاجأة ويعلن تخليه عني؟

كنت شارد الذهن ولم أنتبه لنفسي إلا وأنا تحت "الدوش" والماء البارد يجمِّد أطرافي وينعش سنواتي المهدرة التي أبحث عنها، انتهيت وحلقت ذقني، ارتديت بذلتي الكحلية وقميصًا أبيضَ كنت اشتريته لأحضر به حفل تكريمي عن آخر سيناريو فيلم لي "الناجون من الحياة".

متى وكيف قررت؟ لا أدري غير أنني في الستين وأصبح كلُّ شيءٍ ممكنًا ومعقولًا ومُباحًا، أصبح لي المبررُ والسببُ لفعل المجون، سنين خَرِفة جبانة مقهورة وقت انسحاب مقيت.

لم أشعر بنفسي إلا وأنا بالشارع أعبره للجانب الآخر أحمل دفترًا وقلمًا وأبحث عن سيارتي.. ما زلت أتذكّر لونها سوداء، لماذا اشتريتها سوداء؟ لماذا التشاؤم؟ بماذا كنت أفكر؟ ولماذا اخترت هذا اللون؟ تجاهلت الأسئلة وركبت السيارة وبدأت بالقيادة.. لم أقرر إلى أين ولكني كمن يعرف هدفه اندفعت حتى أني أثرت انتباه كل من كان حولي.

عندما تستيقظ وتجد نفسك تجمع وتلملم أشياءك للرحيل بغير رغبةٍ منك ولا تدري ماذا تأخذ معك.. ماذا تترك.. ما احتياجاتك هناك.. تجربة مخيفة أن تذهب إلى مكان لأول مرة وتجهله، ماذا لو احتجت أن تعود مرة أخرى؟ ماذا لو لم تكن مستعدًا للرحلة؟ ماذا لو فشلت وكان من الصعب العودة ولا تملك سوى الاستسلام؟ تساؤلات تبدو مجنونة ومخيفة!!

نصف ساعة وكنت هناك، الوقت السادسة مساءً، ترجلت من السيارة وسرت في طريق طويل غير ممهد، ويكاد الظلام يفرض وجوده بقوة ولا بصيص ضوء في الأفق.

فقط كنت أسير أبحث عن مكان أعرفه أتلمّس فيه بعض اطمئنان، اعتدت على فكرة وجودي فيه بإرادتي. نعم هنا وصلت.. كان الباب مغلقًا وأنا أبحث عن المفاتيح.. أحدثت جلبة على أثرها جاء الحارس بكشّاف النور، وعندما عرفني رحَّب بي وأخرج مجموعة مفاتيح بحوزته وكان يعرف تمامًا أيها تفتح ودخلت المقبرة بسلام.

كنت أضع في جانبٍ منها منضدةً، وكشافَ نورٍ، وعلبة أقلام، وأوراقًا كثيرة، المكان فسيحٌ يسمح بذلك، هدوء قاتل بلا هدف، كان إلهام الكتابة لا يأتيني إلا هنا.

جلست وأخرجت الدفتر والقلم.. في الستين تستطيع أن تنسى بسهولة وبلا خجل.. حملت دفترًا وقلمًا!! وأنا أحتفظ بتلك الكمية من الأوراق والأقلام.وبدأت أكتب وأكتب، من قال أن الستين ينقطع الوحي وتتلبد سماء العقل بالغيوم؟!

ظللت بمكاني حتى الثالثة فجرًا مسيَّرًا وكأن لا خيار لي.. لا أشعر بتعبٍ، بل لا أشعر بوجودي، إلى أن سمعت صوتَ حركةٍ داخل القبر، وصراخًا وبكاءً، وشخصًا يطلب أن يعود وآخر يجيبه:

- مستحيل.. انتهت الحكاية.. اصمت..

والآخر يصيح:

- تذكرت شيئًا لابد وأن أنهيه..

والآخر يرد:

- البداية والنهاية معلَّقة لا شأن لك بها.. أنت مجموعة أعوامٍ جُمعت وطُرحت تحت الأرض.. الآن اصمت.. لا تزعجني! أنا أسمع هذا الخرِف الجالس ينعي أعوامه الستين وهي ما زالت بين يديه.. يجعلها تتسرب بين أصابعه خوفًا.. سيقتله الخوف.. أتحداك

لم أشعر إلا بيد حارس المقبرة وهو يوقظني، وقد صب الشاي لي وله بحركة تقول أنه تعوَّد على ذلك ولا اندهاشة أبدًا!!

رفعت رأسي ثم نظرت للساعة بيدي.. كانت الثالثة بعد منتصف الليل على المنضدة وجدتني قد خططت على الأوراق كلمة النهاية.

أنهيت سيناريو فيلمي الجديد "المقبرة" فأنا لا أستطيع الكتابة إلا هنا كما قلت سالفًا..

وضعت رأسي على أوراقي وكُتِبت نهاية أخرى.. هنا مقرها..

من مجموعتي القصصية "لا داعي للأحمر"

لوحة بيكاسو