جريدة الديار
الجمعة 29 مارس 2024 03:42 مـ 19 رمضان 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الجدار .... بقلم الكاتبة: هدى حجاجى

تصلنى موسيقى الجرس خافتة من وراء الباب الغلق تزيد فى قلبى خقفان الانتظار سنتان منذ قدومى الى هذه المنطقة من هذه المدينة وأنا ألف وأدور فى هذا الميدان الواسع ولا شئ يتغير ...التمثال مكانه مشدود الظهر . يكسوه غبار سنين فاتت ..ينظر نحو الافق البعيد ... تجاه قريتى موطنى القديم ...وهذه النقطة ايضا لا تتغير عندما أصل أليها يكون ظهرى مدارا الى ظهر التمثال اقف عندها ...وأرفع رأسى انظر الى شرفتها ثم أمضى أتمنى أن أملك ولو قليلا من الارادة كى أصعد اليها .أن اطلب يدها . اتذكر ناس قريتى – الكبير والصغير- وهم يلسنون على ويقولون أننى جبان ...ولا جديد . أكون كاذبا ان قلت عكس ذلك ولن أدعى شجاعة هذه المرة لأننى كنت واقعا – لا محالة – داخل دوائر مجال مغناطسى قوى ... يشدنى دون ارادة منى الى الصعود ...فصعدت ..لامست اصابعى المربع الفضى يمين الباب ...ضغطة ..أثنتين ...ثم فتح لم أصدق ....كانت فى وجهى . زهرة تغادر ملامح الطفولة ..تلبس روبا سماويا لامعا ...حملقت فى عينى بعينين فيهما أشعاع بريق
وفى بطء لذيذ انفرجت شفتاها فى صمت متسائل . له طعم دهشة الأطفال بكل شئ جديد لحظات مرت شعرت فيها بأننى لو تجرأت وفتحت فمى فلن يصدر عنه ثمة صوت لكننى لملمت بقيايا كلمات مبعثرة فى عقلى
أريد الأستاذ.
بابا
نعم ..
- أقول له من ؟؟
- ليس مهما - - المهم أن تناديه
انسابت الى الداخل والباب نصف مفتوح ...نهر من عسل
ووراءها عيناى حتى اختفت . فكرت لحظتها أن أنزل ..أن أهرب قبل أن يأتى ولكن رغما عنى تسمرت قدماى الى أرض الطرقة الطويلة حتى رأيته قادما .. ولا مفر . كان متوجسا . حيانى بود مصطنع وسألنى عن قصدى
-أريدك فى مسألة هامة
- تفضل
خلال البهو الدافىء , تغوص قدماى فى السجاد الفاخر . أسير وراءه ألمح الأشياء بطرف عينى علنى ألف المكان , أجلسنى فى غرفة مكتبه ثم جلس فى مواجهتى
- تشرب ساخن أم بارد ؟
- - مشروب بارد اذا سمحت
بعدها خرج لفترة شعرت فيها بأننى محاصر بالكتب على رفوفها ...
بالجدران ... بالستائر القطيفة المسدلة , برائحة العطر الخانقة وسمعت خلالها همهمات بعيدة ..اخذت تعلو وتخفت حتى سكنت مرة واحدة ورأيته داخلا
-خير ..خير.. قلت انك تريدنى فى أمر هام
-نعم .. المسائلة أن هناك حائطا ..
حائط؟!
- مؤكد أنه حائط
- مؤكد أنه حائط
- وما شأنى بهذا الحائط .؟
- معذرة لأضاعتى وقتك ...لكن أرجوك أن تسمعنى للنهاية
- تفضل
- لنا قطعة أرض صغيرة ..على حدود قناة ضيقة , وصباح يوم صيفى ككل يوم ذهبت وأبى اليها كى نواليها فوجدنا حائطا مقاما على الحدود الشرقية , ولما كنا نعرف ذمة الحاج (جمعه) الخربة , راح أبى يطمئن على مكان (الحديدة) أخذ يقيس ويعيد القياس وأنا معه فوجدناها لا أذكر – مزاحة قدر شبر او شبرين فذهل وسمعت وسمعت بالكاد صوته المغلوب يردد . يخرب بيتك يا جمعة الكلب , وهم يخلع جلبابه ثم ألتقط الفأس وجرى , جريت وراءه لكنه كان يزيحنى بكل ذراعه وفى لحظات كان فى مواجهة الحائط , رفع الفأس بيديه وأماله الى الخلف قدر أستطاعته , وفجأة وقبل أن يهوى به على الحائط , سقط ...
- صرخت ورحت أقلب وجهه باردا فى يدى (يابا...يابا) كانت أصابعه الخشنة تمسك بنبت الارض , وشفتيه تهمس – لا أنسى , الارض .. الحيطة .. الحيطة ... .... ح...ه......
قطع كلامى صوت نقرات خفيفة على باب الغرفة ...فأستاذن ...وفتح الباب فلمحت وجهها المرسوم على صحائف قلبى منورا وهى ترتدى هذة المرة قميص نوم موشى ببستان زهر ...كان بودى أن أبتسم لها ... أن أكلمها ...أن أرتمى فى حضن بستانها , لكن صوت ارتطام غلق الباب
أوقف هدير الحلم , فارتدت عيناى تتأمل رسوم السجادة المنمنمة ثم أتانى صوته وهو يمد يديه بصينية عليها كأس عصير
-تفضل ..
لم أررد أزعاجكم
هذا واجب
كان حلقى جافا ومرا ... بللته بشفطة لم أذق لها طعم ولم ترونى
فاندفعت دون فائدة أجرع الكأس مرة واحدة
هنيا
شكرا
كان بودى أن تعرف أنى لست محاميا
أذن ...فما سر اصرارك على أن تحكى لي ؟؟
- ستعرف .... بعد موت أبى منذ تسع سنوات تقريبا تركت أمى وأخواتى ....وجئت الى مدينتكم هذه , لا أدرى لماذا فعلت هذا ؟ لكن من الجائز جدا أننى كنت أهرب من المسئولية ...أو من المواجهة مع عائلة ( جمعة ) ... المهم أننى كنت كلما ذهبت الى قريتى خلسة ...أرى هذا الحائط يعلو وأحس بضآلتى الى جوراه فلا أقوى على دخول دارنا لأرى أمى وأخواتى وأعود على الفور الى هنا , وأدور وكأننى مربوط الى ساقية فى هذا الميدان وقد تكاثف الغبار على التمثال وسطه ....حتى أصل الى تلك النقطة المحدودة فأراها ...أراها فأشعر بمدى جبنى وعجزى أتردد فيما أفعل ... وأقرر ولا أفعل مرات ومرات حتى جاء اليوم ووجدتنى أصعد الى هنا وأطرق بابكم وأراها
- -من؟...
- - ستعرف فى الوقت المناسب
كنت أرد عليه وأنا أنظر الى سقف الغرفة حيث الاضواء الخفية تجتمع من كل جانب فأرى فيها صورا شتي ..أرى صورتها فى قميص النوم ...صورة أمى فى قريتى البعيدة ..صورة الحائط وعينا ابى معلقتان اليه ..بنظرة تحد وجسده الناحل تنفتح فى رأسه شفتان جرحان , الارض ...الحيطة ...الحيطة ,,
أكدت له ثانية أنه سيعرف فى الوقت المناسب واستاذنته فى الخروج وقد انتويت أن أشترى فأسا كبيرا ..وأذهب بها لأحطم هذا الحائط فخلفه – بالتأكيد – سأجدها ...بستان زهر ....سأجد أمى وأخواتى وقبر أبى .