جريدة الديار
الجمعة 29 مارس 2024 09:33 صـ 19 رمضان 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الكاتبة نـهـيـلة حـنان تكتب : الـرواية سـيدة الأدب الـعـربي

تـعـتـبر الـروايـة اليوم وجـه مـن وجـوه الـسحر الأدبـي و تعد من أكـثـر الـمـقـومـات والركـائـز الـتـي يـقـوم عـليها الأدب الـعـربـي، بحـيث يـحتـضن هـذا الـجـنـس الأدبـي الـراقـي الأصـيـل عدة أقـلام رائـدة عـلى المـستوى الإبـداعـي مـن فـنـون المراوغـة والتـي تتسيـدها الـقـصة بتعدد أنـواعهـا سواء القـصة الـذاتـية والتي تدور أحداثـها حول الذات الساردة أو القصة الـمـستوحاة من أرض الـخـيال شـريـطـة الا تـخلو مـن الإنـزياح والتـشابيه البلـيغة، فالقصة فـي مـكوناتها الدلالـية يـجـب أن تـجـيـبنا عـلى أربـع اسـئلة متى وأين، كيف ولمَ الـروايـة إسـم جـامع لـمعانِ كثيرة فـمنها ما يـرتكـز عـلى الخطـاب الفـلسفي و الخـطاب السـياسي، العـلمي والديني، فهـي تـطمح إلـى أن تـكون الـجوهر الـجـامع للـمستجدات الثقافية ولا تـقـتصر وتنـفرد بـمـقومـاتها عـلى الجنس الأدبي بـشكـل خـاص، لكن هـذا لا يـفـضي بأن يتـم تـجاوز الـبـنية الـدلالية والمـرور عـلى خـصـوصية العـبارات والجـمل اللغـوية و المساس بالـمعنى المـؤسس للحدث، تـتـبـجل سـلـطة الروايـة فـي إفـراغـهـا لجـوهرهـا الأدبـي و فـي إخـتلاف مـرجعياتـها وتعـدد سـياسة أسـاليـبها، تبني معمارها علـى مراعاة الإنحلال والخـروج عـن الـمـألوف ولا تعطي للـمسميات طـباعها الـحـقيقي إذ تعـلق الأمـر بالـخـطاب السـياسـي والقـضايـا الإجتـماعية.

مـن منطـلق الإبداع الأدبي و تـمـوجات الفكـر الذي يـشهـده العـصر المـعاصر والذي جـاء بروزه أمـام الروايـة الا وهو "الشـعر"، والذي إعـتـبره البعض مـحرك أسـاسـي فـي الـمجـال الأدبي من حـيث أن صـيـغتـه تـرهـف الـسـمع و تـريح لـهج الـنفـوس، لكن كـشكل تـعـبـيري تعـطـى الأولويـة لـلـكـتابات النثـرية الـسـمـيـكة، فـالـروايـة سـيـدة الأدب الـعـربـي بـبلاغـتهـا اللـغـويـة و تـخـمتـها الإصـطلاحية و جـوهرهـا الـحـي و كـيـنونتـها الـدلالـية فهـي مـملكـة غـنـيـة بـمـخزونها الـثقافـي، فرضت وجـودها و غـرست أوتـادهـا بحـجمها الـكـبير و غنـى كلماتهـا شـكلاً و مـضمونـاً أمـام الأجنـاس الأخـرى، تبنـى الـروايـة عـلى السرد الذي يتفتـح فـيه الحدث و يرتـكز عـلـى الحـبكة الفـريدة بجرأتها الـمتنوعة، فـقـد تجاوبـت الـروايـة مـع الـذاكرة التاريخية و ذلك فـي عـهد الثمانينات و أطلـقت العـنان لـبروزهـا وتشكلهـا و تغـلبت عـلى الهـيمنة التـي شهدتـها أمـام الشـعر الذي كـان يـحـكـم حـياة العـصر المـعاصر في القرون الوسطـى، هذا جاء بفضـل إنفتاح الـمجتمع و رقـي نـبوغـه الفكري، قد يعتبرها البـعض متنفس روحـي فـي عالم يضيق بـنا ولا نجد ملاذاً يتسع لأحلامنا غير الخيال الذي يبرزه الحدث ويشخـصه وجود الروايـة، فالقارئ يبحث دائماً عـن من يسلبـه ذاتـه و يحيله إلى واقع غـير ذاك الذي يـعيشه و يكابده بينما هناك من يبحث في طيات الـروايـة عـن مـكنونه الخـاص الغير ممنهج فيجد نفسه بطل تلك الرواية فـي رؤية مماثـلة للـواقـع الذي يـعيشه، أما عندما يتعلق الأمـر بالمنـظور السياسـي هنا يكـون المـحرك الرئيسي الذي يسلط عليه الضوء السلوك الفوضوي الذي نعيشه في ظل إنعدام المـسؤولية،الـروايـة مـوسوعـة الـفـكـر و مشـروع الـحـضارة الـضخـم الذي يـساهـم فـي إتسـاع مدارك الـفـكر بحيث أنها سـعيت سـعـيـاً حثيثاً مـن خـلال الغوص فـي عـدة مـواضـيع شـائكـة فقـد تحـررت تـماماً من أي مـنـطلق آخر، تـمـيل إلـى إتـباع أسـلوب غـير مـألـوف و تـصنع الحدث تحت مظلـة التـشويـق و بمـفهوم جـمالـي كـبير تـطرح ذاتـها بحـضور مـكـثف للـخط الـسردي و إستخدام مـعظـم تـقـنيات الإستـخـلاص، تؤسس ذاتـهـا على الـفكر الـطليق لكن هذا لا يفضـي أن تظهـر بصور عـقائديـة إنـبثاقيـة و فكر إلحادي يـنكر العـدل الإلهـي والعصـمـة. لـكـل روائـي أسـلوبه الخـاص كـل عـلى حسـب مـستنداتـه و قـوته الدلالـية و ميـولاته الإبداعية، فهـناك مـن يـشغـل كلماتـه فـي تـرمـيم حـطام النـفـس و طـعنـات الـروح الجـريحـة، بهمـساتـه السحـريـة يـشدو بالقارئ إلى نزف آهـاته لتتقـلـب جـفـونـه مـن ألـم إلـى أمـل، فـي حـين هـناك مـن يـجـمع الـعقل بالـروح بكلماته و ذلك عـبر تـقديـمه لأمـثلة حـية لأناس مـا تـزال مـشاعرهـم الـجـريـحـة مـعلقـة بذكرياتهم السحيـقـة و نالوا الـشفـاء ببلـسم كـلمـة الروايـة، لذلك تـعتبر الـروايـة عـالـم مـن عوالـم الـحكايـات الرمـزية و ليسـت وسـيلة طقـوسيـة لتـسيير الرؤية و ردح الذات القارئة. تـعد الـكـتابـة الروائـية الملجـأ الحـاضن لكل من تغـلفته الخـيبة و أحكمت عـليه الـحـياة بقبضـتهـا إنها ضـرورة تـلبـي لنا مـتنفس فـي التفكـير فأهميتها تـبرز في إتـساع الحـاجة إليـها، يمكننا أن نـقول أن الروايـة هـي عـبارة عن عـرض مسرحـي تتنكر فـيه بأجمـل العـبارات و ليسـت مـجـرد حروف ملقاة عـلى الورق إنما الكتابـة نزيف يصعب إيقافه، الـروايـة محملة بحمولات دلالـية ضاربـة فـي عمق المـعنى فالكـاتب يكتب بـغـمرة شـوق و جمرة متـوقدة، أحـيانا يكتب سيـرة أناس يتكـبدون القـمع و من تم فهو يسـعى إلـى تـحريرهم مـن الإستعباد و الظـلـم و التنكـل فهذا يقف سـداً منـيعـاً أمـام رقيهم الفكري لذا يمكننا أن نـعتبـر الـكاتب الروائـي ممـثلاً لصوت من لا صوت له، شمـوخ القارئ من شـموخ الكـاتب فهو يظهـر لنا الكثير والكثير مما هـو غائـب عـن أذهاننا.

الكتابـة ككل تـشهـد نزوحـاً وتمر بأزمـة ربمـا هـي نتيجة أوهام أنتجـها تمركـز دفـاعي و إنغـلاق لـغوي و تذوقـي، معظم الناس بإخـتلاف مـستواهم الدراسـي يعيشـون إنحطاطـاً فكرياً لأن عوالـم الـذات البشـرية بالغـة التعقـيد مصابـة بمتلازمـة الفـتور عـن الثقافـة ككـل والإنغـلاق عـن الذات و الإكتفاء بالقناعات النفسية و الحمولات المخزنـة، فـي الغالب هم أناس لا تنعشهم أناقـة اللغـة كل ما ينعشهم إكتساب ما يـطلق عليه "بالثقافة الشعبية" والتي تتصل بالشـأن الـمحـلي و المحـيط الخارجـي، إنـه واقـع حـال لا يعـقـل أن يتم تـغييره بالقـوة مادام لم يتدخل الفعل الإنساني والذي يجب أن تتسيده الإرادة فالعمل الذي نقوم به ليس محدداً فينا بل إنه مكتسب، النزوح عن القراءة أصبح متوارث بين الأجيال وهذا بحد ذاته معضلة وقمع للذات لذا يجد الإنسان ذاته أمام واقع يجهله، فالقراءة تجعلنا نتأمل في خبايا النفس و ثنايا الروح و تسمح لنا بإستنباط البعد الجمالي للحياة.