جريدة الديار
الجمعة 19 أبريل 2024 11:01 صـ 10 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الدكتور عبدالباسط الغرابلي يكتب: ميلاد النبي غير مجرى التاريخ

د. عبدالباسط الغرابلي
د. عبدالباسط الغرابلي

كتب الدكتور عبدالباسط الغرابلي من علماء الأزهر الشريف بمناسبة المولد النبوي:

في شهر ربيع الأول من كل عام يحتفل المسلمون بمولد الحبيب محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي غير مجرى التاريخ، وبه ختم الله النبوات وأكمل الدين وأتم النعمة، وجعله رحمة لجميع من خلق، وصدق من قال:  
ولد الهدى فاهتزت الدنيا له * فرحا وزالة دولة الإجرام * و الظلم ولي ماله من رجعة * والعدل أقبل مفرد الأعلام * والجهل أدبر ما له من عودة * والعلم جاء  ينير كل مقام * يا صاحب الميلاد  أنت شفيعنا  * يا خير مبعوث وخير إمام *  أوذيت لم تغضب ولم تك حاقدا * وهديت  أهل الشر والآثام .. 

فما أجمل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أعظم منهجه في التغيير إلى أحسن الأحوال، ومعلوم أن الدعوة الإسلامية تعني الإنتقال بالمدعو من سيء إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن، ومعنى التغيير من سيء إلى حسن أي من سي الكفر إلى حسن الإسلام، ومن سيء المعاصي والبعد عن الله إلى حسن الطاعة والقرب من الله عز وجل، ومن أجل ذلك لاقي الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - كثيراً من الأذى والعنت من أول يوم أمره الله بتبليغ الدعوة في مكة المكرمة  قال الله عز وجل: "يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر".

فبدأ النبي بدعوة أهل بيته ثم الأقرب فالأقرب واستجاب له أربعين شخصاً، وعرفت تلك المرحلة باسم المرحلة الأرقمية، نسبة إلى دار الأرقم وكانت الدعوة فيها سرا، ثم انتقلت الدعوة إلى الجهرية وذلك حين نزل قول الله تعالى: "وأنذر عشيرتك الأقربين".

وفي هذه المرحلة تعرض الرسول وأصحابه إلى مزيد من الأذى، حيث تعرض الرسول للضرب من قبل قريش، وقد دافع عنه آنذاك  أبوبكر الصديق وقال لهم: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، وكل ذلك في سبيل تغيير حال الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن المعاصي إلى الطاعة، تحمل الرسول كثيراً من أنواع الأذى، ومن أجل ذلك انتقل إلى المدينة المنورة وبلغ للناس ما أنزل إليه من ربه، مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى: "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل  إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين". 

وهداية الناس هي خير ما يحصله الإنسان من أجر، وهي لا تستغرق الكثير من الوقت فهي وليدة لحظة يتغير فيها الحال من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى طاعة الرحمن، ثم قام النبي بتغيير حال الإنسان من سئ الأخلاق المنتشرة آنذاك، فغير حال الناس من الظلم إلى العدل، لأن العدل به يأخذ الإنسان حقه كاملاً غير منقوص، والعدل من أعظم القيم في الإسلام. قال الله تعالى : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ".

 وقد طبق النبي ذلك بنفسه فقد روى أن إمرأة مخزومية شريفة سرقت في عهد النبي فأراد أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن يشفع فيها ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أتشفع في حد من حدود الله ! إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الغني تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت ، لقطعت يدها " أخرجه البخاري .

 ولا شك أن الظلم شين تأباه الفطر السوية، ويكرهه الناس، ولا يرضى به العقلاء، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس عدلا. ولقد تغير حال الكثير من الناس من الكذب إلى الصدق، والكذب دليل على ضعف الإنسان وسوء خلقه، أما الصدق فهو أساس متين في حياة المؤمن ، وهو رأس الفضائل وعنوان الإصلاح والصلاح والفضل، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا ، حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طعمة " رواه الإمام أحمد. 

والصدق من صفات الله تعالى ومن صفات الرسل والأنبياء، ومن صفات المتقين ، قال الله تعالى: "والذي جآء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون". ولهذا يجب في ذكرى ميلاد سيدنا محمد أن نتذكر هذا التغيير الذي قام به، وأن نكون صادقين في أقوالنا وأعمالنا،  وأيضاً قد غير النبي حال المجتمع من السخرية والإستهزاء إلى الإحترام المتبادل لأن أسلوب السخرية ليس له زمن محدد ولكنه في كل زمان ومكان، وهو أسلوب وضيع يورث الضغائن والأحقاد والتقاطع والتدابر، وقد نهانا الله تعالى عن ذلك فقال عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسي أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون". 

ومهما كانت صفة الآخرين ووضعهم ، فلا يجوز السخرية منهم والاستخفاف بهم، فلعل الساخر الذي يعتقد بنفسه الكمال يكون غيره أحب إلي الله منه، ولا مجال للسخرية بالغير، عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " صحيح مسلم. 
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حسب امرئ من الشر  أن يحقر أخاه المسلم " سنن ابن ماجة.  
              
وختاماً:  فإنه بميلاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد تغير شكل الحياة، فأصبح الكافر مسلما، والعاصي طائعا ، إلا من رحم الله عزّ وجل، وما زال العلماء يقومون بدورهم لتبصير الناس بما فيه صلاحهم وفلاحهم، ونسأل الله أن يوفقنا جميعا لما فيه خير البلاد والعباد، وأن يجعلنا وأهلنا وبلادنا في أمنه وأمانه ورعايته،  والحمد لله رب العالمين.