جريدة الديار
الجمعة 29 مارس 2024 03:20 مـ 19 رمضان 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

حبيبة المحرزي تكتب : شارع باريس

حبيبة المحرزي
حبيبة المحرزي

سحبت يدها برفق وفتحت الباب، همّت بالنّزول ثمّ التفتت اليه هامسة بصوت رقيق جذّاب : _تركت لك رسالة فيها كلّ ما تريد إن احتجتني يوما.. فتح فمه ليستفسر لكنّها اختلطت بالمارّة واندسّت بين الشٍباب المحتشدين امام المسرح البلدي، لم يعد يرى منها إلاّ شعرها الأشقر المتطاير يغمز الشّبّان الذين غصّت بهم المقاهي.. ادار المقود وانطلق عائدا، ستتوطّد علاقته بها ستدعوه ليعيش معها في بلدها.. فتاة شقراء تعوّدت الجلوس في ركن قصيّ من المقهى ترقب الرّوّاد دون ان تختلط بهم وقد بعثرت امامها اوراقا ولفائف.. داوم على الجلوس قبالتها، سحره جمالها الاسنثنائيّ وهدوؤها المستفزّ، ارسل نظراته تتسكّع حولها، اقترب منها محيّيا، قدّم نفسه باللّغة الفرنسية لكنّها تبسّمت وقالت له بلهجة مصىريّة :

_انا رسّامة المانيّة..

جذب كرسيا وجلس قبالتها.. تمعّن في وجهها المستدير وتاه في بريق عينيها الزرقاوين.. سالها :

_لماذا جئت الى تونس يا ابنة هتلر؟؟ رجّها السّؤال بصيغته الاستفزازيّة لكنّها رصّت غضبها وقالت مبتسمة:

_لقد عشقت تونس الجميلة قبل ان ازورها، قرات تاريخها عندما كنت ادرس العرببّة في القاهرة لأصبح مترجمة، حضارات عدّة تعاقبت على هذه الأرض الطّيّبة.. تمعّنت في ملامحه العربيّة وشعره الاسود الغثّ وابتسمت ثم اضافت بنبرة معاتبة :

_لماذا تنسبني الى ذرّيًة هتلر وتستثني نيتشة وبيتهوفن؟ طمانه ردّها فاردف مبتسما :

_لا اظن ان نيتشة افضل من هتلر في شيء. كلاهما اجرم في حقّ البشريّة لكنّ الطريقة هي الّتي تختلف ولتعلمي أنّ هتلر متاثر بنظريّة نيتشة، قكلاهما مذنب. لم تردّ.. جذبها من يدها وهو يجمّع اوراقها ويغلق حاسوبه قائلا : _ستزورين بيتي ونتحدّث اكثر،المكان خانق. سنكون اصدقاء..

سحبت يدها برفق وهي تقول : _لكنّني مشغولة ولا استطيع مرافقتك، سيكون في زمن لاحق.. واصل جمع الاوراق وحشرها في محفظة سوداء.. وقفت مذهولة أمام إصراره، رفعت عينيها السّاحرتين ثم قالت بنبرة جادّة : _مجرّد اصدقاء.. _نعم مجرّد اصدقاء.. فتح باب الشّقّة.

وتنحّى جانبا لتدخل، أجالت بصرها في المكان، رات كتبا ومجلاّت مكدّسة على المكتب وعلى الأرض، تناولت احداها وبدات تقرا العناوين..

جرّها الى غرفته الضّيّقة، جاشت انفاسه والتوى على بعضه بعضا، حاولت ان تصدّه، ارادت ان تذكّره بالوعد، امسكت راسه بيديها، رجّته، وجه بارد تحجّرت حواسّه، كلّ القيم والوعود تهاوت لحظة طبق الباب خلفها.. حزن ساحق تلبّسها وغلّف كيانها.. داهمه احساس آثم، هي أيضاآثمة،لم قبلت الدعوة.؟ لم لم تصرخ ؟ .لم لم تخدش وجهه؟؟ انتبه الى عويل المنبّهات فضاعف السّرعة.. كلّ ما يريده رقم هاتفها او عنوانها الالكتروني.. سيكفّر عن ذنبه، سياخذها الى الجنوب لتغوص في رمال الصّحراء، سيدعوها الى مهرجان دوز... سترسم لوحاتها من الواحات، جمال الجنوب سينسيها الامر برمّته.. السّيّارات تتلكّأ، ضجر، ضرب المقود بيديه، توقّفت السّيّارات دهرا ثم تابعت سيرها ببطء مقيت، كمّ هائل من السّيّارات والبشر.. داهمه شعور بالنّدم لو انّه تريّث حتّى يكسب ودّها، لكنّها أجنبيّة اوروبّيّة.. قد تكون عشقت الرّجل العربيّ الشّهم بشعره الأسود الفاحم وبشرته القمحيّة الجذّابة..

حاول ان يتجاوز السّيّارات بالتّسحّب على حافة الرّصيف لكنّ الحركة معطّلة، يدقّ المقود بقبضتيه، ينظر الى ساعة يده، انّه وقت عودة اخيه الاكبر الذي عاد منذ ايّام قليلة من الجهاد في الجبال والفيافي فنغّص عليه عيشه. يريد هدايته الى الصّراط المستقيم ... سيجد الرّسالة .

وسيتطوّر الموقف الى مشاحنات وعراك: من؟ ومتى؟ وكيف؟ توقّفت السّيّارة امام العمارة، جرى نحو المصعد الالي، لكنه انبرم صاعدا قبل أن يضغط على الزرّ. اندفع يرتقي الدّرجات :درجتين درجتين ثم درجة درجة. اشتد لهاثه

. تعاظمت دقات قلبه.. لمح اخاه يدخل الشقة وقبل ان يُطبق الباب وراءه دفعه براحتيه ودخل خلفه . سارع الأخ الأكبر الى بيت الاستحمام آذان المغرب تنبعث من المساجد، اغتنم الفرصة وجدّ في البحث، مشى نحو المكتب يبعثر الاوراق والكتب. فجاة سمع اخاه يصرخ ويركل الباب، هبّ اليه مذعورا فاذا به يشير بسبّابته إلى المرآة رسالة كتبت باحمر الشفاه .

( لانّنا مجرّد أصدقاء، مرحبا بك في عالم السّيدا) .