جريدة الديار
الجمعة 26 أبريل 2024 05:19 صـ 17 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الضّرير..قصة قصيرة بقلم: محمد فيض خالد

يتحسّس الجدران في غبطةٍ ، وابتسامة مهتزة ذابلة ، تفترش وجهه النّحاسي الأسمر ، وبياض عينيه النّاصع يخيفني كلّما رفعهما ، في سكونٍ لا يُعكِّره إلا نقيق الضّفادع المُزعج ، القادم من الحقولِ القريبة.

يطرق برأسهِ يتتبع الأصوات بأذنيهِ الكبار ، يلتقط أيّ همسةٍ آتية من الدّربِ ، تكفيه نوبة سعال يعرف على إثرها هوية القادم ، ينبري يُحاصره بدعواتهِ المُتلاحقة ، وسلاماته المنهمرة بالرزقِ .

سألت أكثر من مرةٍ عن سببِ عماه ، لم أصل لإجابةٍ مقنعة ، توزّعت آراء القوم فيهِ ، كلّما مررت أمامه و رأيت عينيه مفتوحتان ، وقلبه غائصٌ تحت أقدامه يُعاقر آلامه ، ويتلوى في أوجاعهِ، يفترش الأرضَ أسفلَ الجدرانِ ، ويد أمه العجوز تجره في شفقةٍ ، وهي تخبّ في ثوبها الأسود الواسع ، تُعِيد عليهِ تعليماتها تتعهده بها عند كُلّ صباحٍ ، تماما كما تهدهد رضيعها المُستقِّر في مهدهِ، تشتغل من فورها الأسئلة في رأسي ، كيف فقد صاحبنا نور حبيبتيه، يصحو مع السّابلةِ ساعة الإشراقِ، يشيّع الجيران في ذهابهم إلى الحقولِ، ودعواته تُلاحِق طُلاّب المدارس الصّغار ، منثورة في صفاءٍ ، ينساب بعدها في الدّربِ بأريحيةِ الخبير بمسالكهِ، يُضرب بكفهِ مرة ، ويجسّ بأصابعهِ الجدران مرة ، يصل نهاية المباني ، ثم يكرّ مُسرِّعا على عجلٍ ، وأكفه تطرق اللّبنات التي حفظت وجه صاحبها، كما حفظتها أنامله. وفي الليلِ يتربّع فوق قطعةِ الخِيش الطّرية، بعد أن ندّتها أمه بالماءِ قُبيل المغرب ، تتطاير شظايا صوته مخترقة فضاءَ الليل الواسع المُظلم ، تخلخل عنه ركدتهِ وسكونه ، يقصّ في نشوةٍ على جُلسائهِ ، الذين افترشوا الأعتاب في مساءِ الصّيفِ الخانق ، وضحكاته الطفولية تعلو مجلجلة في فوضى ، حتى وإن لم يحفل به غير أمه.

ليعود ثانيةً يبث دعواته في كمدٍ وضعف لمن حوله ، وإن كانت اللعنات تمورُ كالحِممِ في قلبهِ، توشك أن تغلب فمه حتى وإن لم ينطقها.

سألت الأفندي ذاتَ مساءٍ ، بعد انتهائي من كوبِ الشّاي المنعنع عن سببِ عماه، تنحنحَ وهزّ رأسه المُدبب، هرش كعب رجله بسرعةٍ ، وقال كمن ينفض عن كاهلهِ عبئا : إن فلان ابن شيخ البلد السبب، ضرب طوبة ناحية كلب، فأخطأت واستقرت بين عينيهِ. لم تكن مصيبته ذات شأن ، رأيته أكثرَ من مرةٍ يلعب مع صبيةٍ في سنِّ أولاده ، "ملك وكتابة " وحجره ممتلئ عن آخرهِ بأغطيةِ زجاجات الكوكاكولا ، يفرك الظّهر بين إصبعين، ما بين الطرة والكتابة ، يُسارع من فورهِ فيضع يده فوق يد خصمه ، ثم يسحب الظهر من تحتها ، يفركه ليتأكّد من جوابهِ ، رأيته مرات ومرات عائدا للبيتِ مُسرعا ، يتحسّس الجدران في خفةٍ ، يدندن فرِحا ، يصيح بأعلى صوتهِ قبلَ أن يصل العتبة ، مُناديا أمه باسمها مجردا ، وهذا لا يكون إلا حال فوزه.

اقتربت منه مُسلِّما ، تعالى نباح الكلاب ، اعترت المسكين هزة ، لمعت على إثرها جبهته ، اندفع بعيدا ، وطائفة من الخطرات تتبعه تعتصر قلبه ، ظلّ يهمس في صمتٍ حتى عاد للدارِ. مرّت السنين ، وشاهدته ساعة موت أمه يجعر ملتاعا بأعلى صوته، فعادت ذكرى الأمس ، تشده وتشدني بخيطٍ رقيق ، تتساقط الأيام من أمامي ، كأوراقِ الشّجر الذاوية ، يتلمس الجدران في ثورةٍ وصوته يعلو مفجوعا ، يردد كالصّغير : يا أمي ... يا أمي .

ثم انزوى بجوارِ الحائط لا يشعر بهِ أحد ، وأمسكَ حفنة من الحصى يجترّ في صمتٍ لوعته و أساه .