بلاتر.. قصة سلطة وفساد

في أواخر القرن التاسع عشر، قال المفكر العربي عبد الرحمن الكوكبي حكمة لا تنسى: الاستبداد يفسد العقل، والمال، والأخلاق." وحين يفسد الأساس، تبدأ أعمدة الحكم في التصدع، ويصبح السقوط مسألة وقت لا أكثر.
وهذه الحكمة تنطبق تمامًا على قصة صعود وسقوط سيب بلاتر، الرجل الذي حكم عالم كرة القدم بقبضة حديدية لأكثر من خمسة عشر عامًا.
بلاتر الذي انتُخب رئيسًا للاتحاد الدولي لكرة القدم في الثاني من يونيو عام 1998، لم يكن مجرد رئيس عادي.
كان ملكًا في مملكته، يهيمن على كرة القدم العالمية حتى يوم الثالث من يونيو 2015، عندما قدّم استقالته المفاجئة بعد يومين فقط من إعادة انتخابه للمرة الخامسة.
كانت استقالته نابعة من فضيحة فساد مدوية، حيث اتُهم بتنظيم تحويل مبلغ مليونَي فرانك سويسري – أي ما يعادل نحو 2.2 مليون دولار – بشكل غير قانوني إلى ميشيل بلاتيني، رئيس الاتحاد الأوروبي السابق، عام 2011، مقابل خدمات استشارية لم تُوضح تفاصيلها بشكل شفاف.
ولد جوزيف سيب بلاتر في مارس من عام 1936 في بلدة فيسب الواقعة في جنوب سويسرا بالقرب من جبل ماترهورن. فقد نشأ في أسرة متوسطة الحال، حيث كان يعمل والده مديرًا لمصنع، بينما كانت والدته ربة منزل. تميزت تربيته بالانضباط والعمل الجاد، مما أثر بشكل كبير على مسيرته المهنية.
أكمل بلاتر تعلمة الثانوي في مدرسة سيون وسان موريس ثم التحق بعد ذلك بجامعة لوزان حيث حصل على درجة البكالوريوس في إدارة الاعمال والاقتصاد عام 1959.
"نجح بلاتر في الإبقاء على قبضته الحديدية على قمة السلطة داخل أقوى مؤسسة كروية في العالم، 'فيفا'، عبر مزيج من الدهاء والمناورات السياسية وأساليب الترهيب."
في أواخر الستينيات، خطا جوزيف بلاتر أولى خطواته نحو عالم الأضواء حين التحق بشركة Longines السويسرية، الرائدة في صناعة الساعات الفاخرة. لم يكن مجرد موظف عادي، بل سرعان ما أثبت كفاءته، ليُرقى إلى إدارة مشاريع توقيت الأحداث الرياضية الكبرى ضمن قسم العلاقات العامة والتسويق وهناك وسط الدقة والاحتراف، تولى بلاتر الإشراف على توقيت دورتي الألعاب الأولمبية في ميونيخ عام 1972 ومونتريال عام 1976، وهي تجربة فتحت له أبواب الرياضة الدولية على مصراعيها.
في عام 1975، انضم سيب بلاتر إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" مديرًا لبرامج التطوير، وهناك بدأ رحلة الصعود بهدوء وثبات داخل أروقة المؤسسة الكروية الأقوى في العالم. استخدم فيها بلاتر دهاءه الإداري وقدرته على بناء الولاءات السياسية ليُحكم سيطرته تدريجيًا، لم تكن وظيفته مجرد منصب إداري، بل بوابة لنسج شبكة علاقات واسعة مع الاتحادات الوطنية، خاصة في الدول النامية، أطلق مشاريع تنموية في أفريقيا وآسيا، وهو ما منحه دعمًا كبيرًا من الاتحادات الصغيرة، التي لطالما شعرت بالتجاهل والتهميش من الإدارات السابقة في "فيفا".
في عام 1981، رقي سيب بلاتر إلى منصب الأمين العام للاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، وهو ثاني أعلى منصب في المؤسسة بعد الرئيس، أصبح بلاتر الذراع الأيمن للرئيس البرازيلي جواو هافيلانج، واستفاد من علاقته الوثيقة به ليفرض نفوذه على إدارة الشؤون اليومية داخل الاتحاد. لم يكتفِ بذلك، بل لعب دورًا محوريًا في تسويق البطولات وتنظيم حقوق البث التلفزيوني، ما جعله صاحب الكلمة العليا في قرارات الرعاية والإعلام، ومهندسًا خفيًا لتوسع نفوذ " فيفا" التجاري حول العالم.
لم يكن صعود سيب بلاتر إلى قمة هرم "فيفا "عام 1998 مجرد فوز انتخابي عادي، ففي تلك السنة، خاض معركة شرسة أمام رئيس الاتحاد الأوروبي لينارت يوهانسون، وانتصر وسط أجواء مشحونة بالجدل، خلف الكواليس، كانت الحملة تعج بالهمسات، أحاديث عن مخالفات مالية، صفقات في الخفاء، وأموال تُنقل في الظلام.
في انتخابات 2002، لم تهدأ العاصفة، بل ازدادت قوة، الاتهامات أصبحت أكثر صراحة، والشكوك تحوّلت إلى تصريحات علنية. أحد أبرزها جاء من قلب القارة الأفريقية، على لسان فرح آدو، نائب رئيس الاتحاد الأفريقي لكرة القدم ورئيس الاتحاد الصومالي آنذاك. تحدّث الرجل للصحافة البريطانية دون تردد: "عُرض على مبلغ 100,000 دولار للتصويت لصالح بلاتر في انتخابات 1998".
كان ذلك التصريح بمثابة رصاصة في قلب مصداقية الفيفا، لكنه لم يوقف صعود بلاتر، بل كشف فقط عن الطريقة التي شق بها طريقه إلى القمة مزيج من النفوذ، والدهاء، وأسرار لا يعرفها سوى من عايش كواليس المؤسسة الكروية الأقوى في العالم.
تميزت فترة سيب بلاتر في رئاسة الفيفا بظلال كثيفة من سوء السلوك والاتهامات الخطيرة ، فبينما كان يدير أقوى مؤسسة كروية في العالم، اتُهم بلاتر بقبول رشاوي مقابل منح حقوق البث لكأس العالم، وباختلاس أموال الفيفا لاستخدامه الشخصي، لكن، رغم هذه الاتهامات التي كان من شأنها أن تطيح بأي شخصية عامة أخرى، ظل بلاتر متمسكًا بسلطته لسنوات طويلة، لم يكن ذلك مجرد حظ أو صدفة، بل نتيجة لمناورة سياسية محكمة داخل أروقة " فيفا "
، ووجود شبكة من المسؤولين المتورطين في فساد المنظمة، الذين دعموه وحافظوا على نظام النفوذ والامتيازات الذي بنوه معًا.
وصف نجم كرة القدم الأرجنتيني الأسطورة دييغو مارادونا سيب بلاتر بأنه "ديكتاتور"، معتبرًا أن "فيفا أصبحت ملعبًا للفاسدين". كما شبّه مارادونا بلاتر بـ “الفأر" الذي يقود المنظمة، ووصف الفيفا بأنها "مافيا فاسدة".
بشكل عام، كانت قيادة سيب بلاتر للفيفا مزيجًا معقدًا من توحيد السلطة والصراعات الداخلية، رغم تمكنه من الحفاظ على منصبه لسنوات طويلة، إلا أن حكمه تميز بسلسلة من الفضائح التي هددت نزاهة كرة القدم العالمية.
كانت كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا أول نسخة تقام على أرض القارة الأفريقية، وهي لحظة تاريخية رياضية عظيمة. لكنها أيضاً مثلت بداية النهاية لنظام سيب بلاتر في الفيفا. مرت البطولة بخلافات كثيرة، من أصوات الفوفوزيلا التي ملأت الملاعب إلى الكرة الجديدة "جابولاني" التي أثارت الجدل، فضلاً عن الأخطاء التحكيمية التي أثرت على مجريات المباريات.
لكن القضية التي طغت على كل ذلك، وكانت السبب الأكبر في تراجع سمعة الفيفا، كانت قرار منح تنظيم كأس العالم 2022 إلى قطر. انتشرت الاتهامات بأن هذا القرار لم يكن نزيهاً، وأنه تأثر بصفقات مشبوهة ورشاوى. هذه الادعاءات ألقت بظلالها على صورة "فيفا " وأظهرت مدى فساد منظومة كرة القدم الدولية في عهده.
لويس فيجو، نجم كرة القدم البرتغالي، وصف فوز بلاتر بولاية خامسة بأنه "يوم مظلم لكرة القدم"، معبرًا عن خيبة أمله من الفساد والمحسوبية التي سيطرت على " فيفا " تحت قيادته كما انتقد بلاتر لرفضه المشاركة في مناظرات انتخابية، واعتبر أن الفيفا خسرت كثيرًا في عهده.
في إحدى المناسبات المثيرة للجدل، لم يتردد سيب بلاتر في إظهار موقفه من نجم الكرة العالمية كريستيانو رونالدو. قال بلاتر بسخرية واضحة إن رونالدو "يلعب بمفرده أكثر من اللازم"، متهمًا إياه بعدم المساهمة الحقيقية في روح الفريق، وكأن النجم البرتغالي كان يغرد منفردًا في عالم كرة القدم. هذا التصريح أثار جدلاً واسعًا، وأدى إلى ردود فعل غاضبة من الجماهير التي ترى في رونالدو رمزًا للنجاح والعمل الجماعي.
في عام 2011، كان سيب بلاتر مرشحًا للرئاسة لفترة رابعة في فيفا، وسط محاولات منافسين مثل إلياس فيغيروا ومحمد بن همام، اللذين انسحبا قبل التصويت، جرت الانتخابات في زيورخ، وحصل بلاتر على 186 صوتًا من أصل 203، ليُعاد انتخابه دون منافس حقيقي. رغم اتهامات فساد وجهت لأسماء بارزة في الفيفا، لم يواجه بلاتر تحقيقًا بسبب نقص الأدلة، خلال حملته، وعد بعدم الترشح مرة أخرى بعد 2015، لكن تعرض لانتقادات بسبب استمرار سيطرته وعدم تأجيل الانتخابات، وسط شكوك حول نزاهة العملية وتأثير شبكته القوية في الفيفا.
بداية النهاية في عصر سيب بلاتر بدأت في عام 2015، حين كان يستعد لخوض فترة خامسة كرئيس للفيفا، واجه منافسة قوية من الأمير علي بن الحسين، وفي التصويت الذي جرى في زيورخ لم يحصل أي منهما على الأغلبية اللازمة لكن عندما انسحب الأمير علي قبل الجولة الثانية، ظن الجميع أن بلاتر سيكمل طريقه بسلام.
لكن بعد أيام قليلة، وبينما كانت فضيحة فساد تهز أركان الفيفا، أعلن بلاتر استقالته مفاجئًا الجميع، معترفًا بأنه فقد دعم العالم لكرة القدم، رغم أنه حاول التراجع لاحقًا، كانت التحقيقات السويسرية قد بدأت بالفعل، وأدت إلى إيقافه ومنعه من العمل في كرة القدم، وتوجيه اتهامات ضده، لم تؤدِ في النهاية إلى إدانته.
رحل بلاتر عن المشهد، لكنه ترك خلفه أزمة غيرت تاريخ " فيفا" وكرة القدم للأبد.