جريدة الديار
الثلاثاء 1 يوليو 2025 10:56 مـ 6 محرّم 1447 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

”التغلغل الإخواني”.. جدل فرنسي يعيد التحذير من خطرٍ يتربص بمصر عبر بوابات الأزمات الاجتماعية

في الوقت الذي تجدد فيه الجدل داخل فرنسا حول "التغلغل الإخواني"، يستحضر المصريون تجربة تاريخية فريدة وملهمة، حين قادت القيادة السياسية والشعب المصري معًا ثورة 30 يونيو، في ملحمة وطنية غير مسبوقة، أطاحت بمشروع جماعة الإخوان الرامي للسيطرة على مفاصل الدولة وتفكيك هويتها.
لقد أدركت الدولة المصرية، في لحظة حاسمة، أن معركة بقاء الوطن لا تُخاض فقط بالسلاح، بل أيضًا بالموقف الحاسم، والإرادة الشعبية، والرؤية السياسية الواعية، فجاءت 30 يونيو لتكون صمام الأمان للدولة الوطنية الحديثة، وتجسيدًا لرفض شعبي شامل لمخطط كان يستهدف ضرب مؤسسات الدولة من الداخل.

ومنذ ذلك اليوم، لم تهدأ محاولات الجماعة في التسلل مجددًا إلى العقول والنفوس مستغلّة أي ثغرة أو أزمة معيشية، وهو ما يتطلب حذرًا دائمًا ويقظة سياسية واجتماعية مستمرة.

وفي خضم النقاش المتجدد في فرنسا، عاد إلى واجهة الجدل مصطلح لم يغادر قاموس الصراعات الأيديولوجية منذ قرن: "التغلغل".

تقرير رسمي صادر عن وزارة الداخلية الفرنسية في مايوالماضي، أعاد تسليط الضوء على هذا المصطلح – رغم وروده مرة واحدة فقط – إلا أن صداه ما زال يتردد بقوة في الأروقة السياسية والإعلامية، باعتباره تحذيرًا مبطنًا من تكتيك قديم جديد تتبعه جماعة الإخوان المسلمين.

وإذا كان هذا الجدل يبدو للوهلة الأولى شأنًا داخليًا فرنسيًا، إلا أنه يحمل بين طياته مؤشرات استراتيجية عابرة للحدود، تستدعي من الدول، وفي مقدمتها مصر، قراءة دقيقة للمشهد، واستحضار دروس الماضي لمواجهة خطر لم يختفِ، بل يعيد تشكّله بأقنعة أكثر نعومة ودهاء.

"التغلغل".. من اليسار الثوري إلى "الخطاب المزدوج"

مصطلح "التغلغل" ليس مستحدثًا، بل ظهر بدايةً في أوساط اليسار الثوري الفرنسي خلال القرن العشرين، حين اتهم التروتسكيون بمحاولات اختراق الأحزاب الاشتراكية لتغييرها من الداخل.

واليوم، يعود المصطلح لكن بوجه مختلف، بعدما اتهم تقرير الداخلية الفرنسية جماعة الإخوان بمحاولة إعادة تشكيل البنية الاجتماعية الفرنسية تدريجيًا، مستخدمين أسلوب "الخطاب المزدوج": حديث ناعم في العلن يوائم القيم الجمهورية، ونيات خفية تهدف لفرض أجندات دينية محافظة تتعارض مع العلمانية.

"الإخوان".. تكتيك ناعم وهدف استراتيجي

كما أوضح الباحث الفرنسي لوران بوارييه، المتخصص في التنظيمات الإسلامية، فإن جماعة الإخوان لا تعتمد على المواجهة المباشرة بل على "بناء شبكات ناعمة" من الجمعيات الثقافية والدينية والتعليمية، تهدف إلى التأثير التدريجي في بنية المجتمع.

ورغم أن تأثير الجماعة على الحياة السياسية في فرنسا لا يزال محدودًا، إلا أن هذا النموذج التحريضي الناعم يحمل ملامح نعرفها جيدًا في مصر، حين تسللت الجماعة لعقود إلى مفاصل الدولة من بوابة الدين والخدمة الاجتماعية، حتى وصلت إلى حكم البلاد وحاولت خطفها تحت راية كاذبة من الشعارات الدينية.

الدرس الفرنسي.. وضرورة الانتباه المصري

إن ما كشفه التقرير الفرنسي يعيد إلى الأذهان حقيقة ثابتة: أن جماعة الإخوان لا تموت، بل تنتظر اللحظة المناسبة للعودة.

ومع الأسف، فإن هذه اللحظة قد تصنعها قرارات داخلية غير مدروسة، أو ملفات شائكة تفتقر إلى العدالة الاجتماعية في معالجتها.

الملفات الداخلية الشائكة.. ثغرات تتسلل منها الجماعة

بعيدًا عن الأضواء، لا تزال جماعة الإخوان ترصد وتشخّص بعناية نقاط الضعف داخل الجبهة الداخلية المصرية، منتظرةً لحظة تململ شعبي لتُعيد ترويج خطابها القديم بثوب جديد. ومن هنا، تبرز عدة ملفات تمس حياة ملايين المواطنين، تحتاج من الحكومة والقيادة السياسية إلى أقصى درجات الحكمة والعدالة:

١. قانون الإيجارات القديمة – قنبلة اجتماعية مؤجلة
بين مُلاك يطالبون بحقوقهم العقارية، ومُستأجرين عاشوا لعقود في هذه المساكن، تكمن معادلة شديدة التعقيد.

فهل من الإنصاف أن تُطرد أسرة فقيرة، سكنت بيتًا منذ الخمسينيات، فجأة إلى الظهير الصحراوي بلا تعويض أو بديل كريم؟ إن التسرع في هذا الملف قد يُنتج غضبًا شعبيًا صامتًا تستغله الجماعة لتأليب الشارع.
المطلوب هنا ليس تعطيل الإصلاح، بل تحقيق العدالة الاجتماعية بالتدرج، والحوار، والمشاركة الشعبية في الحل.

٢. ملف المعاشات – عندما تتحول الكرامة إلى رقم زهيد
لا يُعقل أن يقضي الموظف المصري عمره في خدمة الدولة، ثم يُكافأ في نهاية المطاف بمعاش لا يكفي ثمن الدواء أو إيجار سكنه.

إن هذه الفئة المحترمة من المجتمع تشعر أنها منسية ومُستبعدة، وهنا يتسلل الإخوان بخطاب تعاطفي مدروس.

رفع الحد الأدنى للمعاشات وتقديم دعم حقيقي للمتقاعدين أصبح ليس فقط مسؤولية اجتماعية، بل ضرورة أمنية واستراتيجية.

٣. ملف الحوادث والطرق – من الإنجاز إلى المساءلة
رغم الطفرة الكبرى في مشروعات الطرق، إلا أن تكرار الحوادث المميتة يُثير الريبة، ويهز ثقة المواطنين.

وإذا غابت المحاسبة، فإن الإنجاز يتحول إلى أزمة.

والجماعة دائمًا ما تحوّل الألم الفردي إلى حملة تحريض جماعي. المطلوب هنا هو ضمان التخطيط والسلامة قبل الشروع في التوسعات، ووضع أرواح الناس في قلب الأولويات.

فرنسا تحذّر.. ومصر يجب أن تتأهب

إن فرنسا اليوم، بقوانينها الصارمة وجهازها الأمني المتقدم، بدأت تعي خطر التغلغل الإخواني وتكشف آلياته.

فهل يعقل أن نغفل نحن في مصر، أصحاب التجربة المريرة، عن مثل هذا الخطر؟
لا بد من حكمة سياسية، وعدالة اجتماعية، واستباق ذكي للأزمات، حتى لا نمنح أعداء الوطن الفرصة التي ينتظرونها بفارغ الصبر.

خاتمة: المعركة لم تنتهِ.. فلا تمنحوهم الفرصة من جديد

لقد خاضت مصر معركة وجود في 30 يونيو، وانتصر فيها الشعب والقيادة على مشروع ظلامي أراد خطف الدولة وتحويلها إلى كيان مشلول تتآكله الصراعات والهويات المتنازعة.

لكن – والحق يُقال – المعركة لم تنتهِ بعد.

فالعدو لا يختفي، بل يختبئ، ويعيد ترتيب أوراقه، ويراقب المشهد من بعيد، منتظرًا ثغرة قانونية، أو شرخًا اجتماعيًا، أو أزمة اقتصادية لينفذ منها مجددًا.

وإذا كان الشعب قد قال كلمته ذات يوم وأسقط الجماعة، فإن المسؤولية اليوم تقع على عاتق الحكومة والدولة بأجهزتها كافة.

فكل قرار يمس حياة الناس يجب أن يكون مدروسًا بعناية، عادلًا في توقيته، حاسمًا في أثره، إنسانيًا في مضمونه.

ليس المطلوب أن نخاف من اتخاذ القرار، بل أن نحسن اتخاذه.

لا نطلب التأجيل، بل التدرج. لا نرفض الإصلاح، بل نطالب بأن يكون إصلاحًا يراعي الكرامة، ويعترف بواقع الناس، ويوازن بين الحقوق والواجبات.

إن إعطاء الجماعة أي مساحة، أو ترك فراغ اجتماعي يمكنها أن تملأه، هو خطأ لا يغتفر. فالجماعة لا تحتاج إلى سلطة لكي تتحرك، بل يكفيها احتقان شعبي، أو خطاب مرتبك، أو عجز في التواصل مع الناس لتبدأ في دس سمومها مجددًا.

لذلك، فإن اليقظة السياسية والاجتماعية ليست ترفًا، بل ضرورة وطنية. والتعامل مع الملفات الشائكة – كالإيجارات، والمعاشات، والخدمات – يجب أن يتم بروح الدولة العادلة، وليس فقط بعقلية الموظف التنفيذي.

إن مصر التي أسقطت الإخوان في لحظة مصيرية، قادرة على تحصين نفسها إلى الأبد، إذا ما امتلكت الإرادة السياسية المستنيرة، وصاغت سياساتها الاجتماعية على أسس من العدل والتوازن والكرامة الإنسانية.

فلا تمنحوهم الفرصة من جديد.