مدحت الشيخ يكتب: مجازر السودان والأمن المصري
الخرطوم لم تُعد كما كانت… لا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، ولا لون يطغى على لون الدم. الشوارع التي كانت تضج بالحياة أصبحت أطلالًا لصراعٍ عبثي، عنوانه العريض: "من يحكم الخراب؟"
إنها ليست حربًا بين جيشٍ ومليشيا فقط، بل بين من تبقّى من وطنيين ومن باعوا الوطن بثمن بخس، حتى وإن كان المقابل وعدًا بوهمٍ اسمه “الكرسي”.
السودان اليوم لا يُقتل فقط بالرصاص، بل يُذبح بالصمت… صمت المجتمع الدولي الذي لا يتحرك إلا حين تتضرر مصالحه، وصمت العالم العربي الذي اكتفى بالتعازي والتصريحات الرنانة.
مجازر تُبثّ على الهواء مباشرة، وأشلاء تُنقل في الشاحنات، وكأن المشهد جزء من فيلمٍ بلا نهاية.
لكن في وسط هذا الخراب، يطلّ السؤال المصري الدائم: وإحنا مالنا؟
والإجابة ببساطة: إحنا في قلب الحدث. لأن أمن السودان جزء من معادلة الأمن القومي المصري، والحدود الجنوبية لمصر ليست خطوطًا على خريطة، بل شريان حياة يمتد من النيل إلى البحر.
ما يحدث هناك ينعكس هنا — سياسيًا، أمنيًا، واقتصاديًا.
مصر، بحكم الجغرافيا والتاريخ، لا تملك رفاهية اللامبالاة.
كل رصاصة تُطلق في السودان قد يرتدّ صداها في أسوان، وكل موجة نازحين محتملة قد تطرق باب الحدود في أي لحظة.
لذلك لا عجب أن القاهرة تتابع بدقة، وأن مؤسساتها الأمنية تعمل في صمت — صمتٍ يعرف كيف يقرأ ما بين السطور، ويستعد لما بعد المشهد، لا لما يُعرض أمام الكاميرات فقط.
لكن، ورغم خطورة الموقف، تبقى الحكمة المصرية ضرورة لا بديل عنها.
فالمشهد السوداني ملغوم، ومن يدخل بلا رؤية قد يخرج مثقلًا بالدماء والخسائر.
مصر تعلم أن الحل في السودان ليس عسكريًا، بل سياسي، وأن أي رهان على طرف دون آخر هو رهان خاسر.
فالتاريخ علمنا أن البندقية لا تبني دولة، وأن المليشيا لا تعرف معنى الوطن.
الملف السوداني ليس ملفًا إقليميًا فقط، بل اختبارٌ جديد لقدرة مصر على الحفاظ على أمنها وسط بحرٍ من الفوضى.
وهي قادرة — لأنها ببساطة الدولة الوحيدة التي ما زالت واقفة بثبات، رغم محاولات الإغراق من كل الاتجاهات.
ويبقى السؤال الأخير:
هل يتعافى السودان؟
ربما… لو سكت تجار الحروب، وصحا ضمير العالم، ومدّت القاهرة يدها لا كوصيّة، بل كأخت كبرى تعرف أن وجع الجنوب لا يُسكَن إلا بالعقل والعدل.
وفي النهاية — لا نملك إلا أن نقول:
ربنا يحفظ مصر من نار الجيران، ويحفظ السودان من جنون أبنائه.
فإذا احترق البيت هناك، فلن يسلم السطح هنا.





