جريدة الديار
الأحد 9 نوفمبر 2025 11:25 مـ 19 جمادى أول 1447 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

مدحت الشيخ يكتب: الجرائم الاجتماعية.. إنذار لا يمكن تجاهله

ظاهرة تهدد بنية المجتمع وتكشف خللاً إنسانيًا غير مسبوق

لم تعد الجرائم التي تهز المجتمع المصري اليوم مجرد أفعال فردية عابرة، بل تحولت إلى ظاهرة صادمة تستحق أن تُدرج ضمن ملفات الأمن القومي الاجتماعي.

فما نراه على الساحة من جرائم أسرية مروعة لا يمكن تفسيره فقط بعوامل الفقر أو الضغوط الاقتصادية، بل هو تحول نوعي في السلوك الإنساني ذاته، وانعكاس مباشر لحالة فقدان الاتزان التي يعيشها المجتمع في أعماقه.

لقد عرف المصريون الجريمة عبر التاريخ، لكنها كانت – في أغلبها – تحمل منطقًا يمكن فهمه: خلاف على ميراث، ثأر قديم، أو نزوة شيطانية مؤقتة.

أما الآن، فنحن أمام مشاهد لم تخطر على بال أكثر الكُتّاب سوداوية:

أب يذبح زوجته وطفله الرضيع، أم تُغرق أبناءها واحدًا تلو الآخر دون أن يرفّ لها جفن، ابن يقتل والده لأجل هاتف أو ميراث،

أخ يطعن شقيقه لأنه شاركه في لعبة على الهاتف!

كلها جرائم تُرتكب بدمٍ بارد وملامح جامدة، لا غضب فيها ولا ندم، وكأنها مشاهد درامية تُعاد أمام الكاميرا لا جرائم حقيقية في بيوت من لحم ودم.

وهنا يكمن جوهر الخطر:

فما يحدث ليس مجرد تزايد في معدلات الجريمة، بل تبدّل في نوعها وطبيعتها ومصدرها العاطفي.

نحن أمام تآكل في الضمير الجمعي، وخلل في النسيج الاجتماعي يهدد قيم الأسرة والرحمة والمروءة.

المجتمع لم يتغيّر في يوم وليلة، لكنه تآكل بصمتٍ على مدى سنوات؛

حين انشغلت الأسر باللهاث خلف لقمة العيش، وتراجع دور المدرسة من التنوير إلى الحفظ،

وحين تحوّل الإعلام إلى ساحة صراخ تبحث عن الإثارة لا الوعي،

وتحوّلت منصات التواصل إلى معمل ضخم لإنتاج الكراهية والتقليد الأعمى.

وسط هذا كله نشأ جيل لا يرى في الجريمة فاجعة، بل “ترندًا” يتصدر القوائم ويُعاد تداوله بين السخرية والفضول.

جيلٌ تشبّع بالمشاهد الدموية والمحتوى العنيف حتى فقد مناعته الأخلاقية،

وأصبح القتل عنده حدثًا مثيرًا، لا مأساة تستدعي التعاطف أو الرهبة.

ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة قانون أو ضعف في الردع، بل انهيار في منظومة القيم التربوية والنفسية التي تُبنى عليها الأمم.

فالقانون لا يصنع ضميرًا، والعقوبة لا تُعيد الإحساس الإنساني لمن فقده،

بل وحدها التربية الواعية والإعلام الرشيد والتعليم الحقيقي قادرون على إعادة بناء الإنسان من الداخل.

لقد دقّت هذه الجرائم ناقوس خطر واضح وصريح،

وهي تقول لنا جميعًا – بلا مواربة – إن المجتمع المصري يحتاج إلى وقفة شاملة لإعادة قراءة ذاته.

نحتاج إلى فتح هذا الملف بجرأة داخل المدارس والجامعات والبيوت،

نحتاج إلى إعلام يعالج لا يُشهّر،

وإلى فكرٍ تربوي يُعيد بناء “الوجدان الجمعي” الذي كان يومًا درع هذا الوطن أمام كل انحراف أو خلل.

كما أن دور علماء النفس والاجتماع والدين لم يعد رفاهية أو ترفًا أكاديميًا، بل أصبح ضرورة وجودية.

فهؤلاء وحدهم القادرون على تحليل جذور الظاهرة وتقديم علاجٍ واقعي بعيدًا عن التنظير.

يجب أن يُفتح حوار مجتمعي واسع حول معنى الأسرة، وحدود السلطة الأبوية،

ومسؤولية الدولة في تأهيل المقبلين على الزواج، وتوعية الأطفال منذ نعومة أظافرهم بقيمة الحياة واحترام النفس والآخر.

إن ما نراه اليوم ليس جريمة عادية، بل جرس إنذار مجتمعي ينبّه إلى أن إنسان هذا العصر فقد جزءًا من وعيه بنفسه.

حين يتجرّد الأب من الأبوة، والابن من البنوة، والأم من الرحمة،

نكون أمام لحظة فاصلة تتجاوز حدود الحادثة إلى سؤال وجودي أكبر:

هل ما زلنا نحيا داخل مجتمع متماسك يؤمن بالأسرة والعاطفة والرحمة؟

أم أننا نعيش في حالة “تحلل إنساني” صامت يُهدد كل ما بنيناه عبر قرون؟

إنها ليست دعوة للتشاؤم، بل نداء للاستفاقة.

فالمجتمعات لا تنهار فجأة، بل تسقط حين تتعود على القبح، وتتعامل مع الجريمة كأمر طبيعي،

وحين يعتاد الإنسان قراءة خبر القتل دون أن يشعر بالخوف أو الألم.

إذا تجاهلنا هذا الإنذار اليوم، فالغد سيكون أكثر قسوة.

وإن لم نتحرك الآن لإعادة بناء منظومة القيم والتعليم والوعي،

فقد نصحو ذات صباح على واقعٍ تصبح فيه الجريمة جزءًا من الحياة اليومية،

ويصبح القاتل مجرد “خبر جديد” لا يهزّ أحدًا.

إنها لحظة مواجهة لا تأجيل فيها،

إما أن نستعيد إنسانيتنا،

أو ننتظر أن يكتب التاريخ عن أمةٍ كانت تُعرف بالرحمة، ثم فقدت قلبها في زحام الحياة.