جريدة الديار
الجمعة 26 أبريل 2024 01:49 مـ 17 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

النَّمَلةُ المُتَأرِّقَة بقلم علي الجنابي

- عفواً سيدي، هلّا من دواءٍ عندكَ يَنفعُ مع داءِ أرقٍ على النبض قد لَبَس وكَبَس؟

- ما أسمُكِ يا صغيرتي النّملة المُتَأرِّقَة، وما حاجتكِ لشفاءٍ من أرقٍ فيكِ قد إرتكَس؟ أفما علمتٍ أنّ الأرقَ ما تجرّأَ فأرَّقَ نبضاً ولَبَسَ، إلا نبضاً قد إنتكسَ وأمرُهُ عليهِ قد إلتَبَس؟

- أسمي (بَنّو) وأنا نملةٌ حالمةٌ وصَّبيّةَ، وقومي يَدّعُونَ أنّي متمردة وشّقية، وأنَّي لم أكُ لطرفةِ عينٍ لعَيشي رَضيّة مرضية، وأستنكفُ إحتِماءً برجالِ شُرَفات قبيلتنا العَليّة، وأستَلطِفُ إختباءً بحبالِ قصورِكمُ الهنيّة، وأَستَعطِفُ إنتماءً لمملكةٍ بشريّة، وإحتذاءً بل نَسخَاً الى فتاةٍ آدميةٍ، لا رغبة مني في جنسِكم، بل لهَوَسٍ في قصورٍ غنيّة، وفي كثيرٍ من أحلامٍ وأمانيَّ، وما تمتلكُهُ سيداتُكم من زُخرُفٍ وبدلاتٍ بهيّة، وقد عثروا على أحمرِ شِفاهٍ في حُجرتي أثناءَ إدامةٍ لهم يوميّة، وحسبوها أنها خطيئَة كبرى، تَخَطَّت كلَّ صّفحٍ وعفوٍ في أعرافِنا القَبَليّة؟

-هَوناً يا (بَنُّو) فليس الأمرُ أمر كنوزٍ وقَصرٍ وصقرٍ قائمٍ في الصالة بإنتصاب، وما هو بقَصرٍ على رقصٍ لعُراةٍ على جزيرةٍ بلا أثواب، وما هو بأحمر شفاهٍ، ومقتٍ لأبواب الحِكمةِ والحِجابِ، بل الأمرُ عظيمٌ ومُتعاظِم الأسباب، إنّه يا (بَنُّو) أمرُ خِلافةٍ مُطلَقةٍ في الأرضِ دون عِتابٍ مِن المانحِ أو إستجواب، أمانةُ تكليفٍ دونَ جَبرٍ ولا سيفٍ مُسَلَّطٍ على الرقاب، وأنتم (يا بَنّو) قد فرَرتم من الأمانةِ والأختبار والأنتخاب، وكُلٌّ على ظهرها قد فرَّ، والسمواتِ فررنَ، والأرضُ فرَّت، والجبالُ فررنَ وأبَينَ الحملَ والإنتداب، وقد بيَّنَ الرَّبُّ ذلكَ في سورةِ " الأحزاب"، وإنما أنتم حزبٌ من أولئكَ الأحزاب، وما خلا أبن آدمَ فكلُّ ما على ظهرها همُ من أولئك الأحزاب، أبيتمُ وحملنَاها نحنُ رغبةً بإنتدابٍ، لا رهبةً من إنتساب، طَوعاً بإنسياب لا كَرْهاً بإستقطاب، ثمّ إنّ قليلاً مِنّا يا (بَنُّو) من أدَّى الأمانةَ فتَبارَكَ بها، وما قَلَّتْ أموالُهُ بإقتضاب ، بل قد ذُلِّلَت له ميادين الصعاب، وما ضَلَّت أحوالُهُ، بل كُلَّلَتْ له رياحين الصّواب، وأكثرُنا تعجّلَ المتعَ والمتاعَ وضربَ صفحاً بالأسباب، فأجَّلَ عن السؤالِ الجوابَ، فكانَ لسؤالِ الأمانةِ خائناً بغلوٍ وبإطناب، والخونةِ منّا يا (بَنُّو) على موعدٍ مع شَرّ مآب، وَحيثُ{ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} وإنّ المانحَ لسريعُ الحساب.

وإنَّما عُمُرَ الأولينَ والأخرينَ، وما ستلدُ الأرحامُ من أعمارٍ في قادم الأحقاب، لا تَعدلُ يا (بَنُّو) في ميزانِ الزمانِ لمحَ بصرٍ وأدنى، فإلى ثواب أو عقاب، لكنَّكم في حِلِّ من تلك الحسرةِ وذلكَ الحسابِ، وستُمسونَ تراباً بعد الموتِ فلا عقاب ولا تَباب، وإنَّما نفسُ أبن آدم - يا حبيبتي المُتَأرّقة- جَوَّالةٌ في أربعةِ عوالمِ، أحيطَ بثلاثةٍ منها برزخٌ باطنٌ مَخْتُوم، وأُنِيطَ لنا منها عالمٌ واحدٌ ظاهرٌ معلومٍ. عالَمٌ ملموسٌ والنّفسُ فيهِ مُتَقَلِّبةٌ بالهموم، وأمّا الثلاثةُ المختوماتُ فَعَالَمُ أجنةٍ قد مضى، ثمَّ عالَمُ برزخٍ سيُقضى ليُفضى لعالَمٍ أبديُّ مقضيُّ مَرقوم. تلكَ عوالمٌ غُلِّفَت بغيبٍ مطلقٍ مُحكَمٍ مَكتوم، فلا تعلمُ نفسٌ شيئاً كيف كانت خلجاتُها إذ هي جنينٌ، وكيف ستكونُ مُخرجاتُها والأنين في عَالَمٍ قادمٍ مَعصوم. عوالمٌ، النّفسُ لا تُلقي لها بالاً، وغيرَ ذي شأنٍ عندها مَفهوم، لأنّها جُبِلَت على أن تُقَيّدَ مُتَعَها ومَتاعَها بِقيّدِ يومٍ مُجَسَّمٍ موسوم، تعيشُهُ ما بين شروقِ بازغٍ مرسومٍ، وغروبٍ مُقَدرٍ مَحتوم ومَبرُوم، وتشتغلُ في جمعِ مُتعٍ من عصيرٍ لبرتقالٍ يَعبُرُ البلعوم، أو شطيرةِ لحمٍ تسبرُ الحلقوم، أو حصيرٍ تحتَ ظلالٍ مَدعوم، أو خميرةِ من حُلْمٍ لجاهٍ مُتَوَسَّمٍ مرسوم. إنَّها النّفسُ التي أستلطَفَت دورانَها في فلكِ عالَمٍ محسوسٍ مفهوم، تحسُّهُ وتلمسُهُ، أو هكذا خُيِّل إليها أنّها تفهمُهُ فتَعْلمُهُ، فَرَكنَت إليهِ بفَمٍ أبكمٍ مَكموم، وفَصَلت بَينها وبينَ عوالمِها الثلاثةِ بِبَرزخٍ مُبهمٍ مَلغوم. ولكن يا (بَنُّو) لرُبَما تكونُ النفسُ قد دَنَتْ ذاتَ مرّةٍ، فدَلَّتْ بدلوِها لكشفِ بئرِ تلكَ العوالمِ، فَتَرَينَها قد كَلَّتْ فَمَلَّتْ فَوَلَّت هاربةً بَسَأمٍ مذموم؟ ولَرُبَما يا (بَنُّو) حَلَّتْ عندَ البئرِ كرةً أخرى، فَغَلَّتْ في غياهِبِهِ، فَمَلَّتْ فَضَلَّتْ، فَكَرَّتْ عَوداً لعالَمِها المَقسوم، فإستسلمَت فحَفَت فّغَفّت عند مائهِ، رغمَ أنّهُ ماءٌ مُتَبَخِّرٌ زائلٌ مأثوم، أمَدُهُ في سجلِّ الزّمانِ يومٌ أو بعضُ يومٍ، إغفاءةٌ من نوم، ما بين آهاتِ شهيقٍ مهضومٍ، وواهاتِ زفيرٍ مظلوم.

ذاكَ هو بئرُ عالَمِها، بئرٌ ترتيبُهُ الثاني في متواليةِ آبارٍ أربعة، وذاكَ ترتيبٌ ظاهِرٌ غيرُ معدوم. آبارٌ كأنّها أستحوذَت لنفسِها الرقمَ القمةَ: "تسعةً" وذاك رقمٌ مُكَرَّم محشوم: فتسعةُ أشهرٍ عُمُر النفسِ قَبيلَ مهدِها، فتسعونَ عامٍ قبيلَ لحدِها، فتسعةٌ بعدَ اللحدِ وبأصفارٍ مجهولٍ عددها، لكنّهُ مُحَدّدٌ ملزوم، ثم تأتي تسعةُ الختامِ التي تَفَتَّحَت نوافذِ أصفارِها شطرَ بحرٍ سرمديٍّ، في عُمُرٍ أبديّ رغيدٍ أو لعلّهُ مَغموم. ترتيبٌ تَتضاعفُ آمادُ أصفارِ تسعتهِ بتعجيلٍ رهيبٍ مُقَدَّرٍ محسوم..

- لرُبَّما يا سيدي سأحملُ الأمانةَ كما حَمَلَها حضرتُك الأوّاب، ولن أنبذَها وراءَ ظهري كما فَعَلَ -ولا مؤاخدةً- عُصبةٌ من جنسِكُم مُرتاب؟

- (أوّاب)! ومَن أدراكِ أنّي أوّابٌ ولها حاملٌ بترحاب؟ وقد سَبَقناكِ نحنُ في ذاتِ القولِ في غابرِ الأحقاب، حينما كُنّا في عالمِ الذرِ في الأصلاب، لمّا أشهدَنا ربُّنا على أنفسِنا؛ ألستُ بِربِّكم؟ فقُلنا: بلى، ثم نُكِسنا على رؤوسِنا بتَغطرسٍ وإعجاب، وإذ بكلٍّ منّا لربِّ السمواتِ والأرض خَصيم مُبينٌ ومُسرِفٌ كذّاب. أفلا تَرَينَ يا (بَنُّو) إبنَ آدم وكيفَ يجادلُ آيات اللهِ وهو العزيزُ الوهّاب، عالمٌ للغيبِ والشهادةِ سبحانَهُ! فهُوَ يسمعُ الآنَ ويَرى حِواريّ وإيّاكِ، وما نحنُ فيهِ من حالٍ وضَباب.

- نعم سيدي، وَضَحَ الأمرُ الآنَ، وأحمَدُ اللهَ ربّي أن فَطَرني نملةً، وعلى الأقلِّ لم يجعلني قملةً، تَتَطَفَّلُ على رؤوسِ صبيةِ لاهينَ على كُثَيِّبِ في رَملة. أستغفرُ اللهَ ربَّ كلِّ نملة، ربِّي ورَبَّ الدّجاجةِ ورَبَّ النخلة، ويعلمُ ما نَدِّخِرُ من مؤونةٍ في بطونِ حُجُراتِنا ويعلمُ مقدارَ الشَّهدَ في بطنِ كلِّ نحلة، ويعلمُ متى أنتَ تُشعِلُ السيجارَ ومتى نَسعلُ السَّعلة، وأعوذُ به من سَخَطِهِ، وأسألُهُ ألّا يُسلّطُ عليَّ عدوّاً من سوءِ فِعلة، سواءً أكانَ عُصفوراً، أم دِيكاً، أم كانت دجاجةً مُتَجحفِلةً مع أفراخِها يبغونَ نملة. 

إنّهُ سبحانَهُ قدّرَ فكالَ بموازين القِسط كَيلَه.