جريدة الديار
الجمعة 20 يونيو 2025 05:11 مـ 24 ذو الحجة 1446 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

”حرب بلا طلقات.. كيف تسقط إسرائيل الدول من الداخل؟”

في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم إلى الحروب المفتوحة والمشتعلة بين إيران وإسرائيل ، وتغوص العناوين الإخبارية في تفاصيل التصعيد العسكري، حيث الصواريخ تُطلق والطائرات تُسقط والعواصم تستنفر، يغفل كثيرون عن حرب أخطر، وأشد دهاءً، لا تُرصد بالأقمار الصناعية، ولا تذاع على الهواء مباشرة، لكنها تُغير الخرائط، وتعيد تشكيل الشرق الأوسط من الداخل.

إنها حرب إسقاط الدول من الداخل، التي لا تُخاض بالجيوش، بل بالعقول، والتي لا تُدار من غرف عمليات عسكرية، بل من مراكز استخبارات وشبكات إعلام وأجهزة تأثير ناعم عابرة للحدود.

إنها الحرب التي تتقنها إسرائيل كما تتقن صنع السلاح، لكنها لا تستخدم فيها صواريخ "كروز" ولا طائرات "إف-35"، بل تكتفي بـ"تويتر"، و"فيسبوك"، و"تيك توك"، وجواسيس تحت غطاء الفكر، والإعلام، والعمل المدني.

وفيما تنشغل العواصم بإحصاء الصواريخ المتبادلة بين طهران وتل أبيب، تنفذ إسرائيل استراتيجية أخطر: إنها لا تكتفي بردع إيران عسكريًا، بل تسعى لتفكيكها من الداخل، كما فعلت – أو حاولت – في دول عربية أخرى: من لبنان إلى السودان، ومن الجزائر إلى مصر، مرورًا بتركيا وتونس.

إنها حرب لا تُدار من الميدان، بل من خلف الشاشات، ولا يشارك فيها الجنود، بل "المؤثرون"، ولا تُستخدم فيها البنادق، بل تُزرع فيها الفتن، وتُغذى بالأزمات، وتُمهّد لها بشخصيات مجهّزة في المنفى تحت مسمى "البديل المنقذ".

فما هي أدوات إسرائيل في هذه الحرب؟ وما هي خرائطها الخفية؟ ومن هم الجنود الذين يقاتلون باسمها دون أن يرتدوا الزي العسكري؟

الفصل الأول: الحرب الجديدة.. لا دبابات، بل فيسبوك وتيك توك

لم تعد الحروب تُخاض بالجيوش فحسب، بل بالأفكار. لم تعد إسرائيل بحاجة إلى غزو أرض لتفكيك دولة، يكفيها مقطع فيديو على "تيك توك"، أو حساب مشبوه على "فيسبوك"، أو شخصية وهمية في المنفى تُهيّأ لتكون البديل الجاهز، حين يحين موعد إسقاط النظام.

الهدف ليس التغيير، بل التفريغ.

لا تحديث ولا إصلاح، بل ضرب الثقة، وتفكيك المؤسسات، وشلّ قدرة الدولة على الوقوف.

الفصل الثاني: أدوات إسرائيل لإسقاط الدول

طوّرت إسرائيل على مدار عقود ثلاث أدوات رئيسية لإسقاط خصومها من الداخل:

1. زرع العملاء داخل الأنظمة والمجتمعات
باحترافية عالية، يستخدم "الموساد" غطاءات متعددة: صحافة، دبلوماسية، جمعيات خيرية، وحتى مؤثرين رقميين. العملاء يتسللون إلى مراكز القرار، يراقبون ويُفككون ويُوجهون الأحداث لصالح أجندات خفية.

2. زعزعة الأمن الداخلي بالشائعات والتفتيت
الآلة الإعلامية الضخمة، المدعومة بميزانيات ضخمة، تعمل على إنتاج الأزمات، وتحويل كل اختلاف داخلي إلى صراع، وكل أزمة اقتصادية إلى انهيار وشيك.

3. فصل الشعب عن القيادة
الترويج لخطاب الإحباط والعجز، تضخيم الفساد والفشل، تصوير النظام كعدو للشعب، وتقديم الفوضى كحل وحيد للخلاص.

الفصل الثالث: أمثلة على "الحرب الخفية"

إيران: حرب "البديل الجاهز" واختراق النظام من الداخل

اليوم، يتكرر السيناريو ذاته في إيران.

فإسرائيل، ومعها بعض الدوائر الأمريكية، تعمل على تلميع صورة نجل شاه إيران السابق، وتقدّمه على أنه "المنقذ" و"صوت الحرية"، رغم أنه لا يملك أي شرعية شعبية في الداخل الإيراني.

لكن الأخطر من محاولة فرض البدائل، هو ما تمارسه الأجهزة الغربية من اختراق ناعم للنظام الإيراني نفسه.

وأحد أبرز الأمثلة على ذلك قصة كاثرين شاكدام، فقد دخلت كاثرين إيران بجواز سفر فرنسي بصفتها امرأة مسلمة اعتنقت المذهب الشيعي، وتزوجت من يمني، وارتدت الحجاب، وتظاهرت بالتدين والولاء لنهج "المقاومة"، حتى وصلت إلى قلب الدولة الإيرانية.

أخفت هويتها لفترة طويلة، ونجحت في كسب ثقة عدد من الدوائر المؤثرة في النظام، بل ووصلت إلى الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي نفسه عام 2017، بعد أن وطدت علاقتها بالمؤسسات الرسمية من خلال عملها الصحفي. بل وتمكنت من نشر 18 مقالًا باسمها على الموقع الرسمي للمرشد الأعلى علي خامنئي، وهي خطوة لم يصل إليها سوى قلة من المحسوبين على النظام.

كاثرين لم تكن الوحيدة، لكنها كانت واحدة من أدوات الحرب الناعمة، التي تثبت أن الاختراق لا يأتي دائمًا عبر الجواسيس الكلاسيكيين، بل من خلال أقلام ناعمة وأصوات متعاطفة، ظاهرها دعم وباطنها تفكيك.

سوريا: تفكيك الدولة عبر بوابة المعارضة

لا يمكن لأي محلل منصف أن يُدافع عن سياسات النظام السوري بقيادة بشار الأسد، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن إسقاط أي نظام يجب أن يكون قرارًا شعبيًا خالصًا، وليس نتيجة تلاعب خارجي.

منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، كانت أعين إسرائيل – وأذرع استخباراتها – مفتوحة على اتساعها. دعمت قنوات الإعلام، موّلت منصات معارضة، وأعادت تدوير بعض الوجوه المنفية لتقديمها كـ"قادة بدلاء".

والنتيجة: انقسام حاد بين السوريين، حرب أهلية طاحنة، وتدخلات أجنبية جعلت من سوريا ساحة مفتوحة لقوى إقليمية ودولية، وعلى رأسها إسرائيل، التي احتلت بالفعل مناطق في الجنوب السوري، أبرزها الجولان.

لبنان: دعم ميليشيات وضرب التوازن

من الحرب الأهلية حتى اليوم، سعت إسرائيل لضرب التنوع اللبناني: دعمت "جيش لبنان الجنوبي"، غذّت الفتن الطائفية، واخترقت المجتمع الشيعي والدرزي، ودفعت بعناصر مثل "عامر الفاخوري" لاختراق الداخل اللبناني مجددًا.

السودان: تقسيم وتفكيك

دعم انفصال جنوب السودان (2011):
إسرائيل كانت من أوائل الداعمين لدولة جنوب السودان، وقدمت لها مساعدات لوجستية وعسكرية، الهدف كان تقسيم السودان وإضعاف قوته.

تجنيد عملاء داخل مؤسسات الدولة:
تقارير استخباراتية أكدت وجود عمليات تجنيد داخل الجيش السوداني ومؤسسات حساسة، بهدف تمرير معلومات وتوجيه مسار الأحداث.

تركيا: عبر جماعة غولن والانقلاب

الصدام مع حكومة أردوغان:
رغم التعاون الاستخباراتي بين تركيا وإسرائيل لفترة طويلة، شهدت العلاقة توترًا بعد حادثة "مرمرة". وتحدثت تقارير غربية عن دور خفي للموساد في توجيه جماعة فتح الله غولن التي تم اتهامها لاحقًا بتدبير انقلاب 2016.

محاولات ضرب السياحة والاقتصاد:
عبر حملات تشويه إعلامية وتوجيه رسائل تحذير لمواطنيها من زيارة تركيا، مما أضر بالقطاع السياحي التركي.

الجزائر: دعم الحركات الانفصالية

دعم "الماك" (حركة استقلال منطقة القبائل):
الجزائر اتهمت إسرائيل بدعم هذه الحركة، وتم الكشف عن تعاون بين "الماك" وأجهزة غربية، وارتباط بعض رموزها بعلاقات مع إسرائيل في الخارج.

محاولة اختراق الساحة الثقافية والإعلامية:
عبر تمويل منصات إعلامية ناطقة بالفرنسية تستهدف الشباب، وتروّج لأفكار التغريب والانفصال.

تونس: اغتيالات ذكية

اغتيال المهندس محمد الزواري (2016):
وهو عالم تونسي كان يعمل على تطوير طائرات مسيّرة لحساب المقاومة الفلسطينية. تم اغتياله في صفاقس في عملية معقّدة نُسبت إلى جهاز الموساد.

نشاط استخباراتي تحت غطاء السياحة والدبلوماسية:
هناك شواهد على تجنيد عناصر محلية، ومراقبة متعاونين مع القضية الفلسطينية.

مصر: الحرب النفسية والتشويش الإعلامي

منذ أن استعادت الدولة المصرية توازنها بعد أحداث 2011، تغيّرت قواعد اللعبة. لم تعد المواجهة مباشرة، بل ناعمة، وعبر إعلام موجه، وصفحات ممولة، ومؤثرين يعيشون في الخارج يتحدثون بلهجة مصرية، ينشرون الإحباط واليأس، ويقزمون الإنجازات.

نعم، مصر تواجه تحديات اقتصادية، لكن الأخطر أن تُقدَّم هذه التحديات كدليل على فشل الدولة لا كمرحلة صعبة تحتاج الصبر والثقة.

ما يجمع هذه الأمثلة أن إسرائيل لا تدخل الحرب بسلاح فقط، بل بالكلمة، والصورة، والاختراق، والتجنيد، والإعلام، والدعاية، وتوظيف المعارضين والمنفيين.

إنها حرب نفسية واستخباراتية ممنهجة، تتفوق أحيانًا على الصواريخ والدبابات.

معركة الوعي.. درع الأوطان الحقيقي

في هذه الحرب، العدو لا يأتي بالبزة العسكرية، بل قد يرتدي بدلة أنيقة، ويتحدث باسم "الحرية"، أو يكتب مقالًا تحليليًا "موضوعيًا" بينما هدفه إسقاط الدولة.

اليوم، حماية الأوطان ليست حكرًا على الجيوش، بل مسؤولية كل مواطن:

حين ترفض أن تكون أداة في يد أعداء وطنك؛

حين تميّز بين النقد البناء والتحريض الخبيث؛

حين ترفض تصديق كل ما يُقال على وسائل التواصل دون وعي أو تحقق؛

حين تبني ولا تهدم...

كل منشور، كل كلمة، كل مشاركة، إما أن تكون درعًا يحمي بلادك… أو خنجرًا في ظهرها.

عندها فقط، تحصّن بلادك.

الوطن ليس خريطة على الجدار، بل كرامة وهوية ومستقبل.