جريدة الديار
الخميس 4 سبتمبر 2025 05:44 مـ 12 ربيع أول 1447 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

مدحت الشيخ يكتب: ثقافتنا راحت فين؟

الثقافة ليست ترفًا يمكن الاستغناء عنه، وليست مجرد نشاط جانبي نلجأ إليه في أوقات الفراغ. الثقافة هي الوعي الجمعي، والذاكرة الحية للأمة، والبوصلة التي تحدد اتجاه المجتمع نحو التقدم أو التراجع. من هنا يبرز السؤال المؤلم: ثقافتنا راحت فين؟

قبل عقود، كان الكتاب في متناول الجميع، وكانت المسارح تفتح أبوابها للجمهور بتذاكر زهيدة، وكانت السينما المصرية تنتج أعمالًا رفيعة المستوى تحمل قيمًا ومعاني وتقدم رؤية فنية حقيقية. حتى البرامج التليفزيونية كانت تحمل محتوى تثقيفيًا، يزرع في الناس قيمة المعرفة ويشجعهم على التفكير. اليوم تغيّرت الملامح، وأصبحنا أمام مشهد يسيطر عليه الاستسهال، حيث تراجعت القراءة، وضعفت صناعة الكتاب، وتقلصت مساحة الإنتاج الفني الجاد لصالح أعمال تجارية سريعة.

الظروف الاقتصادية بلا شك ساهمت في الأزمة؛ فالكتاب الذي كان في متناول طالب بسيط أصبح اليوم يوازي تكلفة وجبة يومية. كذلك انشغال الناس بلقمة العيش جعل الثقافة آخر ما يفكرون فيه. لكن الأزمة لا تقتصر على المال وحده، بل على تغيّر الذوق العام تحت تأثير موجات الإعلام الجديد، حيث باتت منصات التواصل الاجتماعي تفرض محتواها الخفيف والمباشر، ليصبح هو المصدر الأول للمعلومة والتسلية، بينما يتراجع الكتاب والمسرح والفن الرصين.

الأخطر أن الثقافة لم تعد ضمن أولويات السياسات العامة كما كانت في عصور سابقة. فالمكتبات العامة تراجعت، والمراكز الثقافية صارت شبه خاوية، والدعم المخصص للإنتاج الثقافي الجاد لم يعد يتناسب مع التحديات الراهنة. وفي المقابل، اتسعت الفجوة بين الأجيال؛ جيل تربى على القراءة والندوات والحوارات الفكرية، وجيل جديد يعيش في عالم سريع الإيقاع، يحكمه الاستهلاك الفوري للمعلومة والصورة.

ومع ذلك، يظل الأمل قائمًا. فالمواهب الحقيقية لم تختفِ، والإبداع ما زال حاضرًا في عقول الشباب، لكنه يحتاج إلى مناخ صحي يتيح له النمو. المطلوب أن نعيد الاعتبار للثقافة باعتبارها أمنًا قوميًا، وأن نضع خطة واضحة لإعادة إحياء الكتاب والمسرح والسينما والفنون الجادة. كما يجب أن تعود المدرسة والجامعة إلى دورهما الأساسي في صناعة عقل ناقد وذائقة راقية.

إن عودة الثقافة ليست حلمًا بعيدًا، لكنها قرار يحتاج إلى إرادة. فإذا أردنا مستقبلًا أفضل، فعلينا أن نستعيد مكانة الثقافة في حياتنا اليومية، فهي وحدها القادرة على بناء الإنسان، وحماية الوعي، ومواجهة التحديات.