تلوث الهواء يتجاوز التدخين في الوفيات.. و نداء أممي عاجل لمُواجهة أزمة الطهي النظيف في إفريقيا
يُعد تلوث الهواء حاليًا ثاني أكبر عامل خطر للوفاة عالميًا، مُتجاوزًا بذلك عدد الوفيات المُبكرة السنوية الناتجة عن التدخين. و قد أدى الإدراك بخطورة هذا "القاتل الصامت" إلى إطلاق نداء عالمي للعمل من قِبَل الأمم المتحدة لمُواجهة هذه الأزمة الوجودية، حيث تنبع هذه الأزمة من مصدرين رئيسيين؛ التلوث الداخلي نتيجة إعتماد أكثر من 2.3 مليار شخص على وقود الطهي المُلوث، و التهديد المُزدوج لصناعة التبغ على الصحة و البيئة. و تؤكد التقارير الدولية أن إحتواء هذه الكارثة يتطلب تحركًا عالميًا شاملاً يُركز على زيادة التمويل و دمج حلول جودة الهواء ضمن خطط التنمية المُستدامة.
خطر تلوث الهواء.
أكد الخبراء في "نداء عالمي للعمل"، أُطلق في فعالية جانبية رفيعة المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة، أن تلوث الهواء أصبح حالياً أكبر عامل خطر على الصحة العامة؛ حيث يُساهم إستنشاق الهواء المُلوث في المنزل و خارجه في وفيات مُبكرة تتجاوز تلك المُرتبطة بالتدخين. ويتنفس حوالي واحد من كل تسعة أشخاص حول العالم هواءً غير آمن.
و تدعم هذه التحذيرات دراسات بارزة، منها دراسة نُشرت في المجلة الأوروبية للقلب عام 2019م (ليليفيلد و آخرون) و دورية كارديوفاسكولر ريسيرتش عام 2020م، التي تُشير إلى أن تلوث الهواء يتسبب في حوالي 8.8 مليون حالة وفاة مُبكرة سنويًا عالميًا، مُعظمها نتيجة أمراض القلب و الأوعية الدموية. هذا الرقم يتخطى بشكل واضح الوفيات السنوية الناجمة عن التدخين (7.2-8 ملايين وفاة)، في حين أشار تقرير "حالة الهواء العالمي" لعام 2024م إلى أن التلوث أودى بحياة 8.1 مليون شخص في عام 2021م.
و يُشدد النداء على أهمية مُعالجة التلوث الداخلي، خاصةً و أن نحو ملياري شخص حول العالم، منهم 960 مليون في إفريقيا جنوب الصحراء الكُبرى، يفتقرون إلى حلول طهي نظيفة و يعتمدون على وقود مُلوث كالكتلة الحيوية و الكيروسين.
التبغ: تهديد مزدوج للصحة والبيئة.
لم يقتصر التهديد على وقود الطهي المُلوث، بل تم التأكيد على الخطر الذي يُشكله تدخين التبغ، ليس فقط على صحة الإنسان، بل على البيئة أيضًا. فوفقًا لتقرير مُنظمة الصحة العالمية "التبغ: يسمم كوكبنا" لعام 2022م، تسبب هذه الصناعة أضرارًا بيئية جسيمة؛ حيث تعادل بصمتها الكربونية خُمس ثاني أكسيد الكربون الناتج عن قطاع الطيران التجاري سنويًا، و تُساهم في إزالة الغابات و إستهلاك المياه. علاوة على ذلك، تُعد أعقاب السجائر أكثر أشكال التلوث بالبلاستيك الدقيق شيوعًا عالميًا، حيث تُلقى مليارات الأعقاب التي تحتوي على مواد سامة في البيئة، مما يُسمم المياه و الحياة البحرية. كما أن الحَدّ من التدخين سيكون مكسبًا كبيرًا للصحة و البيئة، مُؤكدة على التعاون بين برنامج الأمم المتحدة للبيئة و إتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية بشأن مُكافحة التبغ في هذه القضية.
التقارير الدولية تدعم النداء.
تُؤكد التقارير الصادرة عن مُنظمة الصحة العالمية (WHO) أن تلوث الهواء، داخليًا و خارجيًا، يقتل ملايين الأشخاص سنويًا، مُشيرة إلى أن التلوث الداخلي الناجم عن وقود الطهي المُلوث تسبب في وفاة ما يقدر بنحو 3.2 مليون شخص في عام 2021م، مُعظمهم في البلدان مُنخفضة و مُتوسطة الدخل، و هو ما يتجاوز أعداد الوفيات المُرتبطة بالتدخين. كما تُسلط دراسات البنك الدولي و مركز أبحاث الطاقة و الهواء النظيف (CREA) الضوء على التكاليف الإقتصادية الفادحة لهذه الأزمة، و تُشدد على الحاجة المُلّحة للإنتقال إلى حلول طهي نظيفة. كما يربط تقرير مؤتمر الأطراف (COP) الخاص باتفاقية مُكافحة التبغ، بشكل مباشر، بين صناعة التبغ و عملياتها الإنتاجية و إزالة الغابات و إستهلاك المياه و إنبعاثات الكربون، مما يُدعم البيانات حول الأثر البيئي الكبير لهذه الصناعة.
أكدت الدكتورة إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، على ضرورة مُعالجة "الثنائي القاتل" المُتمثل في تلوث الهواء و تغير المناخ معًا. و دعت للعمل مع الدول الإفريقية للحَدّ من الإنبعاثات. و تتفق تقارير UNEP مثل تقرير "تلوث الهواء و التنمية في إفريقيا" على أن إرتفاع مستويات التلوث في القارة يمثل "مشكلة تلوح في الأفق" تهدد التنمية الإقتصادية و تزيد الوفيات المُبكرة.
الحاجة إلى التمويل و دمج العمل المناخي.
تُشدد جمعية المكتب العربي للشباب و البيئة (AOYE) باعتبارها عضوًا في الشبكة العربية للبيئة و التنمية (RAED) مجددًا على الأهمية القصوى لمسألة جودة الهواء كقضية صحية و تنموية عابرة للحدود، و هي تتوافق مع أولويات المكتب في دعم الجهود الإقليمية للتحول الأخضر.
و يُؤكد الدكتور عماد الدين عدلي، رئيس المكتب العربي للشباب و البيئة، على أن الكشف عن كون وفيات تلوث الهواء تتجاوز التدخين يُعدّ جرس إنذار يتطلب تحرركًا فوريًا على مختلف المستويات، لافتًا إلى أن الأمر أصبح ضروريا، و مُطالبًا بأهمية الإسراع في التحول عن الوقود الأحفوري و التوجه نحو الإنتقال الطاقي العادي، مع أهمية زيادة الإستثمار في حلول الطاقة النظيفة و تعزيز كفاءة الطاقة في الصناعة و النقل و المباني، و أهمية البناء على المجهودات الوطنية التي تسعى إلى تحسين أنظمة النقل و جعلها مُستدامة.
و أشار كذلك إلى ان المكتب العربي للشباب والبيئة يسعى بقوة إلى رفع الوعي بأهمية ترشيد إستهلاك الطاقة و تقليل إستخدام الأجهزة غير الضرورية. مع تصميم و تنفيذ المُبادرات التي تُساهم في الدعوة إلى إستخدام وسائل النقل العام أو الدراجات و المشي بدلاً من السيارات الخاصة قدر الإمكان. و تنفيذ الأنشطة التوعية حول كيفية التخلص من المُخلّفات بشكل صحيح و فصلها و إعادة تدويرها. و قيادة حملات زراعة الأشجار و النباتات لزيادة المساحات الخضراء و ذلك في اطار المساهمة في تنفيذ المبادرة الرئاسية زراعة المائة مليون شجرة.
وعلى المستوى الإقليمي و الدولي، شدد الدكتور عماد الدين عدلي، على ضرورة تعزيز التعاون العربي و الدولي لتأمين التمويل الكافي، و تطبيق معايير صارمة لجودة الهواء، و دمج مُعالجة مصادر التلوث الداخلي و الخارجي ضمن خطط التنمية المُستدامة، مُعتبرًا أن الحلول التكنولوجية و الطاقة المُتجددة هي مفتاح تحقيق هدف "الهواء النظيف للجميع".
أزمة الطهي والتمويل.
تتفاقم أزمة تلوث الهواء العالمية نتيجة تدهور جودة الهواء في إفريقيا، خاصة في منطقة جنوب الصحراء الكُبرى، حيث لا يزال ما يُقدر بنحو 2.3 مليار شخص حول العالم يفتقرون إلى حلول طهي نظيفة، معتمدين على وقود مُلوث كالكتلة الحيوية والكيروسين الذي يسبب تلوثاً داخلياً خطيراً.
تُؤكد منظمة الصحة العالمية أن هذا التلوث الداخلي يقتل 3.2 مليون شخص سنويًا. ورغم استمرار تزايد عدد المحرومين من الطهي النظيف في هذه المنطقة (حيث أظهرت دراسات حديثة من رواندا وكينيا أن المدارس تسجل مستويات جسيمات دقيقة تتجاوز معايير منظمة الصحة العالمية بأكثر من 19 ضعفًا في المطابخ)، فإن معالجة هذه التحديات الصحية والبيئية تصطدم بعقبة رئيسية هي فجوة تمويلية حادة، إذ يؤكد تحليل "تحالف المناخ والهواء النظيف" (CCAC) أن الدعم الإنمائي الدولي المخصص لمكافحة تلوث الهواء لا يتجاوز 1% من إجمالي المساعدات، مما يعيق بشكل كبير القدرة على توفير حلول الطهي النظيف والبنية التحتية اللازمة لتحقيق هدف "الهواء النظيف للجميع".
فجوة التمويل والحاجة إلى التحرك العالمي.
تُواجه جهود مُكافحة تلوث الهواء عقبة مالية كُبرى، إذ تكشف تقارير الهيئات الدولية و تحالف المناخ و الهواء النظيف (CCAC) أن الدعم الإنمائي الدولي المُخصص لهذا المجال لا يتجاوز 1% من إجمالي المُساعدات العالمية. هذه الفجوة التمويلية الحادة تعيق بشكل كبير القُدرة على تنفيذ حلول شاملة لمُواجهة القاتل الصامت، و بالتالي، تبرز الحاجة الماسة إلى زيادة التمويل المُوجه لمُكافحة تلوث الهواء و دمجه بشكل فَعّال ضمن أولويات العمل المناخي و خطط التنمية المُستدامة.
كما أشارت الدكتورة روزي تشايلدز، الرئيس العالمي للدعوة في "صندوق الهواء النظيف"، إلى أن تلوث الهواء يبدو "أقل تمويلاً" بشكل كبير، خاصة بالنظر إلى تأثيره الهائل على الوفيات و المُساهمة في تغير المناخ. منوهة على تقارير منظمة "صندوق الهواء النظيف" الحديثة، مثل تقرير "حالة تمويل جودة الهواء في إفريقيا 2022م"، التي أكدت أن إفريقيا تتلقى حصة ضئيلة (3.7% من إجمالي التمويل العالمي لجودة الهواء بين 2015-2021) على الرغم من أنها تتحمل 26% من الوفيات العالمية بسبب تلوث الهواء الخارجي.
التقارير المشتركة (UNEP و CPI).
و في مُبادرة سياسات المناخ (CPI) و برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، أكدت تقاريرهم المشتركة (مثل تقرير 2023م عن التمويل المناخي) أن إفريقيا مسئولة عن 4% فقط من الإنبعاثات العالمية، لكنها الأكثر تضررًا، و مع ذلك لا تتجاوز حصتها من تدفقات التمويل المناخي العالمي سوى 5-7%، مما يخلق فجوة تمويلية ضخمة (تُقدر بـ 130 مليار دولار سنوياً حتى 2030م، وفقًا للبنك الإفريقي للتنمية) تحد من قدرة القارة على التكيّف و مُكافحة التلوث.
التحديات الرئيسية.
بالإضافة إلى نقص التمويل، تتركز التحديات الرئيسية أمام تحقيق هدف "الهواء النظيف للجميع" في أربع نقاط محورية: أولها، أزمة الطهي النظيف، خاصةً في إفريقيا جنوب الصحراء. وثانيها، التلوث الخارجي المُتزايد الناتج عن الصناعة، النقل، الزراعة، و حرائق الغابات. أما التحدي الثالث، فهو التهديد المُزدوج لصناعة التبغ الذي يُمثل عقبة بيئية و إقتصادية و إجتماعية تُؤثر على الصحة و الكوكب. إن مُعالجة هذه التحديات المُتشابكة تتطلب تحركاً شاملاً و عاجلاً على كافة الأصعدة.
الحلول المُقترحة.
يتطلب الحل تبني عمل دولي شامل يُركز على زيادة التمويل، و تطبيق معايير صارمة لجودة الهواء، و دمج مُعالجة التلوث ضمن خطط العمل المناخي، هذا إلى جانب تسريع الإنتقال إلى حلول الطهي النظيف، مثل "الطهي الإلكتروني" و الطاقة المُتجددة و النقل المُستدام، مع أهمية تعزيز التعاون الدولي و الإقليمي و تفكيك الشبكات الإجرامية المُتعلقة بالإتجار بالبشر في سياق الهجرة المُتأثرة بالتغيرات البيئية.
الجدير بالذكر، أن الهدف الرئيسي للجهود الدولية يجب أن يتركز على زيادة التمويل الدولي المُخصص لمُكافحة تلوث الهواء و دمجه ضمن أولويات العمل المناخي، لتجاوز الفجوة الحرجة من الدعم الإنمائي. هذا التمويل هو المفتاح لتحقيق الهدف التالي الأكثر أهمية، و هو تسريع الإنتقال العالمي إلى حلول الطهي النظيف و الطاقة المُتجددة للجميع، خصوصاً في إفريقيا حيث لا يزال مليارا شخص يعتمدون على الوقود المُلوث. إن تحقيق هذه الأهداف يضمن تحويل إلتزام الأمم المتحدة إلى واقع ملموس، و تحويل الحلول التكنولوجية إلى مفتاح لتحقيق هدف 'الهواء النظيف للجميع.





