جريدة الديار
الأحد 14 ديسمبر 2025 11:53 صـ 24 جمادى آخر 1447 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

مصر تحصّن الدلتا: حلول الطبيعة لإنقاذ الأراضي الرطبة و السواحل بشراكة المجتمع

يواجه الشريط الساحلي المصري والدلتا تحديات "وجودية" صامتة، تتراوح بين الإرتفاع التدريجي لمنسوب سطح البحر و تدهور الأنظمة البيئية في البحيرات التاريخية. إنها معركة لا تقتصر على حجم التمويل و الدراسات الأكاديمية، بل تمتد لتشمل تفعيل الإرادة السياسية، و تطبيق القوانين، و تعزيز الشراكة المجتمعية، لإنقاذ مصادر الثروة المائية و السمكية التي تُعد ركيزة الأمن القومي لمصر.

رسم خارطة طريق للحل.

لمُواجهة هذا التحدي، عقدت الشبكة العربية للبيئة و التنمية "رائد"، برئاسة الدكتور عماد الدين عدلي، "المؤتمر الوطني حول الأراضي الرطبة في مصر"، و ذلك بهدف بناء خارطة طريق نحو إستراتيجية وطنية شاملة للأراضي الرطبة. و يأتي المؤتمر، المنفذ بالتعاون مع مرصد الأراضي الرطبة المتوسط (MWO) و وزارة البيئة، في إطار مشروع يستمر حتى عام 2026، حيث شهد حضورًا مُكثفًا من الخبراء، و الإعلاميين و الصحفيين، و ممثلي الجمعيات الأهلية، و الصيادين، في خطوة لطرح الحلول المُعتمدة على الأراضي الرطبة و تعزيز الأمن المائي و المرونة المناخية في البلاد.

تحرك بيئي بالتعاون مع الأمم المتحدة.

أكد الدكتور عماد الدين عدلي، رئيس المكتب العربي للشباب و البيئة (AOYE) و المنسق العام للشبكة العربية للبيئة و التنمية (رائد)، على أهمية إستضافة مصر لمؤتمر وطني للخبراء حول الأراضي الرطبة، تضمن ورشة عمل، و الذي تم تنظيمه بالتعاون الوثيق مع جهاز شئون البيئة بوزارة البيئة، حيث ركز على التعريف بأهمية الأراضي الرطبة في مصر إقتصاديًا، و إجتماعيًا، وبيئيًا، و ذلك من خلال مناقشة التحديات و الفرص المتاحة، كونها جزءاً لا يتجزأ من بيئة البحر المتوسط.

البحيرات الشمالية في قلب المناقشات.

أوضح الدكتور عدلي، أن الورشة شهدت مشاركة واسعة من خبراء وزارتي البيئة و الرَيّ و المحافظات المعنية، مع التركيز بشكل خاص على الأراضي الرطبة و البحيرات الشمالية الحيوية مثل البرلس، المنزلة، البردويل، إدكو، ومريوط. و هدفت المناقشات إلى تبادل التجارب الناجحة و إستخلاص الدروس المُستفادة لوضع حلول للتحديات البيئية التي تواجهها هذه المُسطحات المائية.

إعلان القاهرة يحدد الأجندة الدولية.

تطرق عدلي، إلى أبرز المُخرجات الدولية المُرتبطة بالعمل البيئي المصري، و التي إنبثقت عن قمة الأطراف المُتعاقدة لخطة عمل البحر المتوسط، و على رأسها إعلان القاهرة الوزاري. هذا الإعلان يُحدد بوضوح أولويات المرحلة القادمة، أبرزها: مُواجهة التغيرات المناخية، مُكافحة التلوث البلاستيكي، حماية التنوع البيولوجي، و صون البحر المتوسط. كما أكد الإعلان على ضرورة تعزيز دور الشراكة و التعاون، مُشدداً بصراحة على أهمية الدور المحوري للمجتمع المدني في هذه المرحلة.

خطة عمل و ميزانية للتنمية المستدامة.

أشار عدلي، إلى أن مُخرجات القمة لم تقتصر على الإعلان الوزاري، بل شملت أيضاً إعتماد خطة عمل تنفيذية مُفصلة للسنتين القادمتين، تتضمن الميزانية المُعتمدة لتمويل أنشطة خطة عمل البحر المتوسط. و أكد أن إعتماد هذه الإستراتيجيات يضمن إستمرار العمل و دعم مُقترحات المؤسسات الإقليمية، لا سيما اللجنة المتوسطية للتنمية المستدامة، و التي ستنطلق لتنفيذ الإستراتيجية المتوسطية للتنمية المستدامة في الفترة ما بين 2026 و 2027.

تحدي المواقع المسجلة و المستقبلية.

أكدت غادة أحمدين، مدير برامج شبكة "رائد"، على ضرورة التركيز ليس فقط على المواقع الأربعة المسجلة حاليًا ضمن إتفاقية "رامسار"، بل و التأكد من أن إدارتها تتم بشكل سليم، إضافة إلى تحديد مواقع أخرى مُؤهلة للتسجيل مُستقبلاً. مُشيرة إلى أن هذه الورشة تميزت بحضور نوعي ضم خبراء وطنيين، مُمثلين عن هيئة حماية الشواطئ، و جامعات مختلفة، بالإضافة إلى مجموعة من الصيادين المحليين المعنيين بمنطقة بحيرة البرلس.

حلول البرلس: مشروع "ريسكوم" التشاركي.

كشفت أحمدين، عن مشروع إقليمي قادم سيتم تنفيذه في مصر بالتعاون مع وزارة البيئة، يُعرف باسم "ريسكوم" (الموجود حاليًا في دول متوسطية مثل المغرب و تونس). يتركز عمل المشروع في بحيرة البرلس، و يهدف أساسًا إلى تحديث خطة إدارة البحيرة بشكل تشاركي يضم جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك مُمثلون عن الصيادين، و المزارعين، و المرأة، و الشباب.

التركيز على "الحلول القائمة على الطبيعة".

شددت مدير برامج "رائد"، على أن جوهر العمل المُستقبلي هو تطبيق مفهوم "الحلول القائمة على الطبيعة". و ستعتمد هذه الحلول على الخبرة المحلية، حيث سيتم إستنباطها من المجتمع نفسه، "لأنهم أقدر الناس على تحديد المشاكل و إقتراح الحلول القابلة للتطبيق". و يهدف المشروع إلى تحديد و إختيار حل أو حلين من هذه الحلول لتطبيقها على أرض الواقع كمشروع إسترشادي ريادي بتمويل مُخصص، بهدف تكراره لاحقًا في مناطق أخرى و توسيع نطاقه لخدمة المجتمعات المحلية المستفيدة.

و طالب الدكتور مصطفى الحكيم، أستاذ متفرغ بمركز بحوث الصحراء، بالعودة للجامعات و مراكز البحوث للوقوف على المرجعية العلمية التي تم الإستناد عليها في المشروعات المشابهة.

ربط الإستراتيجيات البيئية.

و أوضح هيثم اليماني، مسئول بالشبكة العربية للبيئة والتنمية "رائد" أن وزارة البيئة نجحت في الربط بين ثلاثة استراتيجيات وهى، الإستراتيجية الوطنية للتغير المناخي و الإستراتيجية الوطنية للتنوع البيولوجي وأيضاً الإستراتيجية الوطنية لمكافحة التصحر، وعلينا الإستفادة منهم عند إطلاق الإستراتيجية الوطنية للأراضي الرطبة، كما أن المكتب العربي للشباب والتنمية ساهم مع وزارة البيئة في إطلاق مبادرة عن التغيرات المجتمعية التي تمت في عدد من المحافظات " الفرص و التحديات" وذلك عند إعداد الإستراتيجية الوطنية للتغير المناخي و يمكننا عمل ذلك في عند إطلاق الإستراتيجية الوطنية للأراضي الرطبة بعمل دراسة بالمجتمعات التي بها أراضي رطبة مثل الفيوم، و سيناء وكفر الشيخ وغيرها من المحافظات التي بها أراضي رطبة.

أهمية الأراضي الرطبة في حماية الشواطئ المصرية.

أكدت المهندسة سلوى عبد الفتاح، رئيس الإدارة المركزية للتنفيذ و الصيانة بالبحر الأحمر في هيئة حماية الشواطئ بوزارة الموارد المائية والري، أن الأراضي الرطبة تمثل عنصرًا أساسيًا و خط دفاع طبيعي صديق للبيئة في إستراتيجيات حماية الشريط الساحلي المصري، حيث تلعب دورًا حيويًا في صد تداخل مياه البحر و الحَدّ من تأثيراته السلبية. لا تقتصر فوائد هذه الأراضي على الحماية الهندسية فقط من النحت و التآكل و إرتفاع منسوب المياه و تقليل طاقة الأمواج، بل تشكل أيضاً مصدراً مهماً للمواد المغذية الداعمة للتنوع البيولوجي و الطيور المُهاجرة.

بناءً على هذه الأهمية، أشارت المهندسة سلوى، إلى تحول إستراتيجي في منهجية هيئة حماية الشواطئ، حيث إبتعدت مُؤخرًا عن الإعتماد الكلي على المُنشآت الثقيلة "غير الصديقة للبيئة إطلاقاً" (مثل حواجز الأمواج و الرؤوس الحجرية). و تتبنى الهيئة الآن أعمال حماية أكثر إستدامة، و تعتبر الأراضي الرطبة إحدى أهم الوسائل الجديدة المتبعة لحماية المناطق الشاطئية بكفاءة و فعالية بيئية. و أضافت بتأكيد على ضرورة العمل الجاد للحفاظ على ما تبقى من الأراضي الرطبة والسعي لإسترجاع ما فُقد منها، نظراً لقيمتها البيئية و الإقتصادية القصوى.

حماية دِلتا النيل.

و أشار المهندس محمد أحمد علي، المدير التنفيذي لمشروع تعزيز التكيف مع التغيرات المناخية في دلتا النيل و الساحل الشمالي، إلى أن مصر نجحت في حماية 69 كيلومتراً من الأراضي المعرضة للغمر من البحر في محافظات البحيرة، كَفر الشيخ، الدقهلية، دمياط، و بورسعيد. مُؤكدًا أن الجديد في هذه المشروعات، التي تشرف عليها وزارة الموارد المائية و الري و هيئة حماية الشواطئ، هو الإعتماد على طرق حماية مُبتكرة مُستوحاة من الحلول المحلية البسيطة للأهالي، ثم تطويرها هندسياً. هذا النهج أسفر عن توفير حماية لأكثر من 750 ألف نسمة و إستثمارات بقيمة تتجاوز 400 مليار جنيه بتكلفة زهيدة، نظراً لبساطة الحلول و قدرتها العالية على التكيف مع التغيرات المناخية. و إضافة إلى المشروعات القائمة، تعمل الوزارات حاليًا على وضع "خطة الإدارة المُتكاملة للمناطق الساحلية" التي تمتد على طول 1200 كيلومتر من ساحل البحر المتوسط، بهدف التعامل بصورة إحترافية مع المخاطر المستقبلية التي تواجه الأراضي الرطبة و البنية التحتية و ضمان التنمية المستدامة.

و خلال المؤتمر تم عرض رؤى عدد من الخبراء و المُختصين المعنيين بهذا المجال، كما تم الإستماع لرؤية الصيادين الذين يعيشون في هذه المناطق لإستخلاص الحلول من الطبيعة للقضاء على التحديات من خلال الفرص المتاحة، مع الوقوف على أهم المشكلات التي تواجه الصيادين بالمناطق الرطبة، وسرعة العمل على حلها .

تحديات بيئية وجودية.

و أفاد الخبراء عن تقرير شامل تحديات بيئية وجودية تهدد بحيرات مصر وسواحلها الشمالية يشمل: تدهور المسطحات المائية و تهديد الدلتا: تكشف التقارير عن "كوارث صامتة" تواجه المسطحات المائية في مصر، أبرزها التدهور الهيدرولوجي و البيئي للبحيرات الشمالية التي تُعد مصدراً حيوياً للإنتاج السمكي (100 ألف طن)، و قد تقلصت مساحات بعضها كبحيرة الريان جراء التعديات. يواجه الساحل الشمالي و دلتا النيل خطراً وجودياً مزدوجاً يتمثل في إرتفاع منسوب سطح البحر العالمي بالتزامن مع هبوط مستمر لأرض الدلتا. تتصدى وزارة الري لذلك بمشاريع حماية مكثفة بطول 1200 كيلومتر، مع السعي لضمان إستمراريتها بعد عام 2026.

مكافحة التلوث البلاستيكي و دمج القطاع الخاص: تبرز مشكلة التلوث بأكياس البلاستيك و المخلفات كتهديد رئيسي و وشيك للبيئة البحرية، خاصة في منطقة البحر الأحمر. و في حين تؤكد وزارة البيئة جهودها بتنفيذ إستراتيجية وطنية لتقليل إستخدام البلاستيك، يشدد الخبراء على أن الحلول يجب أن تتجاوز الإجراءات المؤقتة. ويطالبون بتفعيل مفهوم "المسئولية الممتدة للمنتج" لإلزام الشركات المنتجة بتحمل عبء إدارة مخلفاتها لضمان استدامة الحلول.

الحلول بين المجتمع و البحث العلمي: أكد الخبراء أن الحلول الفعالة لمجمل هذه التحديات تكمن في محورين أساسيين: أولهما ضرورة دمج المجتمع المحلي إقتصادياً للإستفادة من الموارد البيئية (كالبحيرات) بدلاً من التعدي عليها، و ثانيهما تفعيل المخرجات البحثية و الدراسات السابقة التي كلفت الدولة موارد ضخمة، و تحويلها إلى خطط عمل تنفيذية تخدم المشاريع التنموية و البيئية المستدامة.

أثناء الإجتماع تم طرح قضية حماية أشجار المانجروف، و أكد الخبراء أن المانجروف (أشجار القُرم) يُمثل على شواطئ البحر الأحمر كنزاً بيئياً فريداً و حائط صد طبيعياً ضد التغيرات المناخية، إذ يعمل كمخزن للكربون بكفاءة تفوق الغابات العادية بأربعة أضعاف؛ ولكنه يواجه تهديداً وجودياً يتمثل في التقطيع الجائر والرعي العشوائي للإبل في مناطق مثل الشلاتين، نتيجة تعارض المصالح المباشر مع المجتمعات البدوية التي تفتقر إلى البدائل الإقتصادية، مما يستدعي حلولاً مستدامة تركز على دمج هذه المجتمعات في خطط التنمية و الإستفادة من المحميات لضمان شراكتها الفاعلة في الحماية بدلاً من التسبب في التدهور.

نداء للعمل: تفعيل المُخرجات البحثية.

يُطالب المشاركون بضرورة تحويل الرصيد البحثي المصري الهائل الذي كُلفت عليه موارد ضخمة، من مُجرد وثائق إلى خطط عمل تنفيذية تخدم المشاريع التنموية و البيئية في المنطقة الساحلية، لضمان إستغلال الكفاءات و تحقيق التنمية المستدامة.

عمل وطني إستراتيجي.

لم يكتفِ المؤتمر برفع الوعي، بل تحوّل إلى منصة عمل وطنية، حيث تم إستعراض الوضع الراهن للأراضي الرطبة إستناداً إلى نتائج دقيقة صادرة عن مرصد الأراضي الرطبة في المتوسط. وقد شهدت الفعاليات عرضاً مكثفاً لأبرز المبادرات الوطنية الناجحة في مجال الإدارة الرشيدة و إعادة تأهيل هذه المناطق. و الأهم من ذلك، نجح المؤتمر في خلق حوار بنّاء بين مختلف الأطراف المعنية (الحكومة، الجهات البحثية، المجتمع المدني والإعلام)، بهدف بناء رؤية مشتركة وتحديد الأولويات الوطنية، تمهيداً لوضع الأسس الأولى لإعداد إستراتيجية وطنية متكاملة للأراضي الرطبة في مصر.

يُمثل المؤتمر الوطني حول الأراضي الرطبة، الذي عقدته شبكة "رائد" بالتعاون مع وزارة البيئة، نقطة تحول مفصلية في تعاطي مصر مع تحدياتها البيئية الوجودية. فبدلاً من الإكتفاء بالإستراتيجيات التقليدية، تتبنى الرؤية الحالية "الحلول القائمة على الطبيعة"، و تعمل على دمج المجتمع المحلي، خاصة الصيادين و المزارعين، في رسم وتطبيق خطط الإدارة السليمة، كما في مشروع "ريسكوم" التشاركي. إن هذا التحول نحو الإستدامة البيئية، بدعم من مُخرجات دولية مثل "إعلان القاهرة"، يؤكد أن معركة حماية الشريط الساحلي و الدلتا و البحيرات الشمالية، تتطلب تفعيل الشراكة المجتمعية و البحث العلمي لتجسيد الأهداف البيئية في خطط عمل وطنية ملموسة، تضمن الأمن المائي و الغذائي للأجيال القادمة.