جريدة الديار
الجمعة 26 أبريل 2024 01:27 مـ 17 شوال 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

الناقد محمود عبد الشكور يكتب عن رواية ”شبرا” لنعيم صبري الصادرة عن دار الشروق

كتب الناقد محمود عبد الشكور عن رواية "شبرا" لنعيم صبري والصادرة عن دار الشروق.

لعل رواية "شبرا" لمؤلفها نعيم صبري، والصادرة في طبعة ثانية مؤخرا من دار الشروق، أقرب ما تكون الى جدارية لعصر وزمن، بقدر ما هي جدارية لوطن، تتزاحم فوق الجدارية شخصيات متعددة الألوان والأعراق والألسنة والأديان، وتذوب فيها الفوارق والطبقات، جدارية مفعمة بالحنين والبهجة في حب مصر الكوزموبوليتانية المتسامحة والمنفتحة.

لا يمكن الحديث عن بطل بعينه، البطولة جماعية، بل إن كلمة "الجماعة" في هذه الرواية، التي تحكي عن سنوات الخمسينيات والستينيات في شارع الزهور بشبرا، لا تنصرف الى "الجماعة إياها"، ولكنها تعبر عن جماعة البناية القديمة، التي تملكها الست بطة المسيحية، ولكن شققها حافلة بأصناف من البشر والجنسيات والأعراق والأديان: المسلم والمسيحي، الأرمني والفلسطيني واليوناني، القاهري والقادم من أسوان للعمل، الكل في واحد، جماعة تمثل وطنا وحالة لا تتكرر، شبرا، التي وصفها د محمد عفيفي في كتابه عنها، بأنها اسكندرية أخرى كوزموبوليتانية، ولكن في قلب القاهرة. منهج الرواية هو التفاصيل النابضة بالحياة، والتي تصبح هدفا في حد ذاتها، وكأن نعيم صبري يخشي أن تفلت منه حيوية الصورة والشخصيات والطقوس، أو كأنه لا يريد أن يترك شيئا لكي يتسرب من ثقوب الذاكرة، تنصهر الثقافات في شبرا، لا يمكن أن تلتقط صورة شخصية فردية، رغم قوة رسم الشخصيات من كل الأجيال، فكرة الآخر نفسها ليست سؤالا مطروحا من الأساس، وحتى عندما يطرح في علاقة عاطفية بين مجدي المسيحي ونبيلة المسلمة، سرعان ما يجد السؤال جوابا سريعا رغم صعوبته، يذوب الإختلاف، وتجد العلاقة من يدافع عن حق الحب، يصبح الصدر أوسع من الأزمة، ويبدو القلب أثقل من المصيبة، وحتى عندما يتفرق الأصدقاء بين مصر وأمريكا ولندن، فإن أغنية أو قطعة موسيقية تجمعهم في ميعاد محدد، مثلما جمعهم حي شبرا العامر. لا يعني ذلك أن المجتمع كان مثاليا، هناك مشكلات ومشاحنات بل وكوراث، هناك امرأة فقيرة تموت وهي تجهض نفسها، خوفا من زوجها الذي لا يريد طفلا جديدا، وهناك عجوز متصابية تشبع رغباتها مع شاب مكبوت، هناك أزواج متبرمون، وزوجات تعيسات، وشباب طائشون، وفتاة تفقد جنينها، ولكن الألفة والمناسبات تجمع الكل: فرحة كعك الأعياد، أوقات العزاء، أيام المرض، زفاف ابنة الخادمة، كلها فرص مناسبة للونس والإحتفال الجماعي، أما الفضائح فيتم الإعتذار عنها، أو نسيانها. لا يترك نعيم صبري صورته بدون أن يظهر فيها، هو حاضر في صوت الراوي العليم، يعلق ويرسم خريطة المكان، ومباديء لعبة الأولى، وخريطة للعمارة وسكانها، يشير أحيانا الى تغيرات معاصرة، ويختتم الحكاية بقصيدة له عن شبرا، يريد أن يقول إنه ليس مجرد راو، هو أيضا، مثل شخصيات الرواية، يعرف قيمة شبرا، ويراها حالة ومعنى، وليست مجرد مكان، شبرا باب يفتح على إنسانية الإنسان، بصرف النظرعن أي دين أو عرق أو لغة. السياسة نفسها تبدو باهتة في الرواية، لا نراها إلا في انعكاسها على عائلة إشكنازي اليهودية، العلاقات الإنسانية والعاطفية تبتلع السياسة، وتجعلها على الهامش، رغم أن السياسة ومعاركها صبغت كل شيء في تلك السنوات العاصفة.

نص بديع يمسك بالذاكرة الخصبة، يعيدنا الى عالم كان موجودا، لحقتُ شخصيا بعضا منه كأحد أبناء شبرا، الذين عاشوا هناك في فترة الطفولة، لم نكن نعرف الهوية الدينية لمن نلعب معهم، لا في العمارة ولا في المدرسة، وكان عم ملاك البواب، وزوجته أم بيسة، وأم مكرم التي تساعد أمي في الغسيل، جزءا من عائلة البناية، تماما مثل عم صابر الحلاق، ومثل أم نجاة التي اشتريت منها لأول مرة جريدة الأهرام.

هذا الكتاب أكثر من كونه رواية، إنه كتاب عن الوطن كما كان، وكما نريده أن يكون، وثيقة عن المكان والزمان والناس، وعن فضيلة التسامح، التي تليق حقا بالإنسان.