جريدة الديار
الجمعة 17 مايو 2024 12:24 مـ 9 ذو القعدة 1445 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

علي الجنابي يكتب :الصمت الناطق

علي الجنابي
علي الجنابي

كان آخرُ مساءٍ ليَ في سفرةٍ الى "إستانبول". وتلك مدينةٌ يُوقد مصباحُها من سحرِ شرقٍ خجولٍ, و إنضباطِ غربٍ مجبول. مدينةٌ أزقتُها أوحت ليَ من اول نظرةٍ و بفضول, بأنّ الإسلامَ هو سيدُ الغربِ والشرق , لو إستقامَ أهله على الطريقة والتزموا الأصول, ونبذوا كلَّ فكرٍ مرتجفٍ ومشلول, ولم يهبطوا -رغباً من عند انفسهم -على مدارج النغمِ والترنّحِ ونقر الطبول . في ذاك المساء حيث إقلاع طائرتي في الثالثة ليلاً الى بغدادَ في موعدٍ مأمول . تناثرَ رفقاءُ رحلتي لتجوال ختاميٍّ في المدينة حتى الثانية ليلاً - وبِنهَمٍ منهم خبول! ولهم الحقُّ! فما رأت أعينُهم من قبلُ مدينةً خارج بلدهم سوى "إستانبول". كنتُ قد إرتأيتُ إعتكافاً في مقهى الفندق, فالنفسُ كانت تواقةً لما عند الصمت من حلول . صعدتُ الى المقهى الذي صُمِّمَ بإبداعٍ هندسيٍّ مبذول, فوق سطح الفندق وعلى هيئة مربع زجاجي لتسهوَ الأفئدة معه و تزهوَ العقول, وجعلوهُ يطلّ على ذانك المضيق و جسره المعلق المفتول. البالُ والحالُ كانا متكئينِ الى الخلف مسترخيين على بارِ في المقهى آسرٍ غير مأهول. تركتُ لفخذي أن يمتطيَ أخيه الفخذ بتذللٍ محمول, والأطراف تتمايل على هونٍ كرقصة في بندول. الجو ذو نسماتِ ربيعٍ بديعٍ, والصمتُ مُكَرَّمٌ هنا والنطقُ مٌحَرَّمُ ومعلول . إعتكفت مُتَسَمِّراً في مقعدي من الثالثة عصرا حتى الثانية ليلا بفكرٍ هانئٍ وعما حواليه ناءٍ ومفصول, كتمثالٍ برونزي شاخصٍ ببصرهِ صوب بحرٍ فضيٍّ صامتٍ مصقول, ومسترجعاً خطىً لسنين عمرٍ لاهثةً , وكانت في أيامه لاهيةً تصول، كل الخطى: حلوها ومرّها، ثقيلها و خفيفها, الملوثُ منها والمغسول . كم كنتُ بحاجةٍ لجلسةِ تغسلُ الذاتَ في فضاءٍ صامتٍ معزول, فتفوزَ بفكرٍ نقيٍّ ماكنت لأقطفَ ثماره من قراطيس قراتُها بخمول, ولا وعظ سمعته من عمامةٍ بذبول.. كانت جلسةٌ ثمينة وخلوةٌ نادرةٌ, ما خُطِّطَ لها, وماكنت أحلم بمثلها أن أنول, فالمقهى خلا من كلِّ زبونٍ إلا أياي و بحراً هادئاً وخُضراً من تلول, وكأنّهم شعروا بحاجتي لصمتٍ مُقفَلٍ فمنعوا سواي من الدخول. ثمَّ.. شانَ الصمتُ ولوجَِ أربعة سيّاحٍ ألمان في المقهى وبانَ على صمتي الأفول, وولّت عنه تغريداته شطرَ ماحوله من حقول. إختارَ الألمان مائدة لعشائهم أسفل مني بذراعٍ أو يطول, وحيث كانت منصتي تعلوهم ولعلّها تقيني من لغوهم والسيول, كان ولوج الألمان(هما رجلان ومثلهم نساء) ولوجاً غير مأمول, توجستُ من أن يطلبوا مشاركتهم بحديثٍ مكررٍ مهمول, ولم أكُ مستعداً لمشاركتهم حديثَ مجاملاتٍ مستهلكٍ جاهزٍ مسطول, ولا لإجهدَ فكري في إنتزاع مفرداتٍ إنجليزية ارضاءً لهم او لكائن من كان في صمتيَ المقتول, رغم يقيني ببعدِهم عن كل إحتكاكٍ مبتذلٍ موصول, وإلتزامهم بادب الذوق في تواصلٍ مهذبٍ مغزول. كانوا يتنازعون حديثهم بينهم بهمسٍ غير عجول. تناسيتهم تماما إلا من نظرة خاطفة أو إثنتين أُختُلِسَتا بفضول . هم فعلوا أكثر من ذلك وكانت نظراتهم تطرق بابي كل حينٍ كرسول . الساعة الآن التاسعة مساءً ورقّاصُها على جدار المقهى منهمكٌ بغزوه للزمان ومشغول . دفعوا حسابهم ثمَّ نهضوا فأقبلوا جميعا بتجحفلٍ محفول, نحو منصتي لينحنيَ بحضرتي كبيرُهم وزوجتُه تحيةً مبالغاً فيها بتجمّلٍ معمول, ودون اي تصريح رافقها! أومات براسي رداً لتحيتهم بإبتسامةٍِ من وجهٍ مؤتلفٍ غير مجهول. أبداً , أنا ما فوجئتُ بتحيتِهم وقد عَلمتُ أنهم فاعلوها بذهول, ولكن... لم فعلوها؟ لا أدري وعجزَ فكري أن يقول !.... أوَذلكَ هو ما يدعونه الناسُ: (الصمت الناطق)؟ ربّما.