جريدة الديار
الجمعة 25 يوليو 2025 11:35 مـ 30 محرّم 1447 هـ
بوابة الديار الإليكترونية | جريدة الديار
رئيس مجلس الإدارة أحمد عامررئيس التحريرسيد الضبع

إكتشاف ”عمالقة الملح” في البحر الميت .. آفاق علمية و بيئية و إقتصادية

في إكتشاف غير مسبوق، تمكن علماء من فك شفرة واحدة من أكثر الظواهر الطبيعية إثارة للدهشة في أعماق البحر الميت، وهي تكوّن "عمالقة الملح" الضخمة. هذه التكوينات الملحية الهائلة، التي تمتد لكيلومترات و تصل سَماكتها لأكثر من كيلومتر، كانت لغزًا حَيّر الباحثين طويلاً في هذا المُختبر الطبيعي الفريد، الذي يُعرف بكونه أخفض نقطة على وجه الأرض و أحد أكثر المُسطحات المائية ملوحةً. فكيف تتشكل هذه العمالقة الملحية في قاع البحر الميت؟ و ما هي الديناميكيات الخفية التي تحكم هذا التكوين الغامض؟

كشفت دراسة حديثة عن الآلية التي تتكون بها رواسب "عمالقة الملح" الضخمة في قاع البحر الميت، الذي يُعد مُختبرًا طبيعيًا فريدًا لكونه أخفض نقطة على سطح الأرض و أحد أكثر المُسطحات المائية ملوحةً. هذه التكوينات الملحية الهائلة، التي يُمكن أن تمتد لأكثر من كيلومتر أفقيًا و عموديًا، كانت لغزًا حَيّر العلماء طويلاً.

الدراسة، التي نشرت في "المُراجعة السنوية لميكانيكا الموائع" و شارك في تأليفها البروفيسور إيكارت مايبرج من جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا، بيّنت أن التبخر و درجات الحرارة المُتغيرة هما المُحركان الرئيسيان لهذه الظاهرة. يُعتبر البحر الميت بحيرة مُغلقة لا تصب فيها الأنهار، مما يجعل التبخر الوسيلة الوحيدة لفقدان الماء، و بالتالي يُؤدي إلى تركز الأملاح و إنخفاض مستوى المياه.

يشير مايبرج إلى أن الكثافة الملحية العالية للبحر الميت و عمقه الإستثنائي يُوفران فرصة نادرة لدراسة ظواهر فيزيائية و حرارية لم تُفهم بالكامل بعد. و يؤكد أن "البحر الميت هو المكان الوحيد حاليًا على الأرض الذي يتيح لنا دراسة كيفية تشكل هذه التكوينات".

كما أوضح الباحثون أن التوزيع الحراري العمودي يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل هذه "العمالقة". فبينما كان البحر الميت في السابق "بُحيرة ميرو ميكتيك" (طبقات مائية مُستقرة حراريًا)، تحوّل في الثمانينيات إلى بُحيرة "هولوميكتية" (تختلط فيها الطبقات سنويًا) بسبب إنخفاض تدفق المياه العذبة.

إن المفتاح لفهم هذه الظاهرة هو رصد ما يُعرف بـ"الثلج الملحي"، و هي بلورات الهاليت (ملح الصخور) التي تتساقط. هذه الظاهرة، التي رصدها مايبرج و فريقه في صيف 2019 و تُربط عادة بالفصول الباردة، تحدث عندما يتجاوز تركيز الملح الحَدّ الذي تستطيع المياه إذابته. فعندما ترتفع حرارة الطبقة العليا و تذوب الأملاح، تُبرد أجزاء منها و تغوص، بينما ترتفع أجزاء من الطبقة السفلى. و عندما تُبرد الطبقة العليا الغنية بالملح، يترسب الملح مُكونًا "الثلج الملحي". هذه العملية تتكثف في الشتاء بالبحر الميت، مما يُؤدي إلى تراكم مُستمر لـ"الثلج الملحي" و يفسر تكوّن "عمالقة الملح" في أعماقه.

تساهم هذه الأبحاث بشكل كبير في فهم العمليات الفريدة في البحيرات المغلقة وشديدة الملوحة. بالإضافة إلى ذلك، قد تساعد في توضيح آليات إستقرار و تآكل السواحل الجافة في ظل تغير مستوى سطح البحر، و ربما تفتح آفاقًا لاستغلال هذه الرواسب كمورد طبيعي في المستقبل.

لا يقتصر الهدف من هذا الإكتشاف العلمي الرائد على فك لغز طبيعي فحسب، بل يمتد تأثيره ليشمل فهمنا للبيئات القاسية على كوكبنا، و تطبيقاته المُحتملة في مجالات حيوية. فمن خلال دراسة "عمالقة الملح" في البحر الميت، يكتسب العلماء رؤى أعمق حول ديناميكيات تغير مُستوى سطح البحر و تأثيره على إستقرار السواحل و تآكلها، وهي قضايا ذات أهمية بالغة للمُجتمعات الساحلية حول العالم في ظل التغيرات المناخية. علاوة على ذلك، يفتح هذا الفهم الجديد الباب أمام إمكانيات إستغلال هذه الرواسب الملحية الهائلة كمورد طبيعي مُستدام في المُستقبل، مما قد يُوفر حلولًا مُبتكرة لإحتياجات الصناعة و المُجتمع. و بذلك، لا تُسهم هذه الأبحاث في إثراء المعرفة العلمية فحسب، بل تُقدم أيضًا فوائد عملية و مُستقبلية للحياة على الأرض.